القاصة تبارك الياسين
اكتئـــــاب
[highlight]” في البداية تظن أن هناك ذبابة داخل رأسك تدور في حلقات مفرغة تسمع طنينها لتجد نفسك بعد ذلك انك انت تلك الذبابة لتدور مجددا في حلقات مفرغة تتخبط مجددا فالعالم أمامك نافذة مغلقة… على ذات الكرسي المهمل في البيت وذات الكتاب الذي لم تكمل قراءته تعود من رحلتك الذهنية في اللاشيء.. لتجد نفسك انك انت الكرسي المهمل وانت الكتاب الذي لم ينته بعد. وصفحات بكلمات تحاول أن تفهمها تفك رموزها البسيطة….[/highlight]
[highlight]تحاول الخروج من عزلتك وحدتك باتصال مع صديق لتجد نفسك انت الصديق تكلم نفسك وتبحث عن مشكلة تعرف حلها مسبقا لتدعي انك بخير ولكنك لست بخير[/highlight]
[highlight]والعالم كله مجنون يحاول جرك إليه يهمس إليك أن هناك حفلة في الخارج ما عليك سوى أن تفتح الباب لتخرج.لتجد نفسك انك الباب الموصد جيدا ولا مجال لأن تفتحه[/highlight]
[highlight]لا يبقى لديك وقتها إلا العودة إلى سريرك حيث الأرق والقلق وهواجس ترسم على جدران غرفتك طرق جميلة للحياة عبر جسر صغير تعبره للموت اولا…[/highlight]
[highlight]تنظر لوجهك في المرآة فتجد الذبابة والنافذة والكرسي والكتاب والصديق والباب وجسد علق رأسه في حبل يشبه الى حد كبير جسدك ولكنه ليس أنت….فأنت الان مجرد حبل يتدلى من السقف”[/highlight]
القصّة القصيرة جداً تطرقت لكلّ المواضيع و بدون استثناء. حقّاً ليس بالكيفية المفصّلة كما هو في الرّواية، أو شبه المفصلة كما هو في القصّة و القصّة القصيرة.و لكن بصورة في غاية الإيجاز، و التّلميح تمرّر القصّة القصيرة جداً خطابها، الذي يثير فضول المتلقي، و يستدعي معلوماته، و يشحذ أفكاره، و يغذي تأمّلاته، و يُنعش ذاكرته.
و من ذلك، المواضيع النّفسية. كالذي نجده في نص ” اكتئاب ” للقاصة الأردنية تبارك الياسين . و لعلّ النّص يعلن عن نفسه انطلاقاً من العنوان.
فالإكتئاب لغوياً:من اكتأب أي اغتمّ و حزن وساءت حالُه ،و تغيّرت نفسُه من شدّة الحزن والهمّ . و منه شخصية اكتئابية: شخصيّة انفعاليّة، هستيريّة تتسم بالعبوس وشدّة الحزن والانكسار.أمّا علمياً الاكتئاب (Dépression) اعتلال عقليّ، و معاناة من المشاعر السّلبية، و عدم الاكتراث،و قلّة النّوم و الإحساس بالأرق و الألم و النّفور من الأنشطة، و اضطراب المزاج، ما ينتج عنه تأثير سلبيىّ على الأفكار و السّلوك و المشاعر، و الإحساس بالذّنب، و محاولة إلحاق الأذي بالنّفس كالانتحار أو التّفكير فيه…و هو بين اكتئاب خفيف و متوسط و شديد ويُعرف بالاكتئاب الحاد (Severe depression disorder)، أو الاكتئاب السّريري الإكلينيكي – (Clinical depression )إذاً، نحن بصدد ظاهرة نفسية متفشية في جميع المجتمعات البشرية، نتيجة عدّة عوامل و أهمّها ضغوط و إكراهات الحياة اليوميّة .
1 ـ اختارت القاصة سارداً عليماً (omniscient) و يتسم بالغرابة كما سنرى .فهو يعرف كلّ شيء عن البطل/المكتئب، و بخاصّة ما يتعلّق باكتئابه.[ في البداية تظن أنّ هناك ذبابة داخل رأسك… تكلّم نفسك وتبحث عن مشكلة تعرف حلّها مسبقاً لتدعي أنّك بخير ولكنك لستَ بخير… العودة إلى سريرك حيث الأرق والقلق وهواجس… حبل يشبه الى حدّ كبير جسدك ولكنّه ليس أنت….] فالسارد بهذه الصّفة، و الوظيفة لا يستطيع التّحكم في ثرثرته، ما يجعل الفائض اللّغوي يتوفر بشكل ملحوظ، بل حتّى ما نسميه التّكثيف اللّغوي يصبح منحسراً، الشيء الذي جعل النّص في مائة و ثلاثة و ثمانين كلمة، و هو قابل للتّهذيب لما هو أقلّ من ذلك.
2 ـ توظيف المصطلحات النّفسية. فبحكم أنّ الموضوع نفسيّ، استعانت القاصّة بمصطلحات نفسية: [ الذّهنية ،عزلتك، وحدتك، مجنون، الأرق، القلق، الهواجس..] أو ما هو مجانس أو ملحق بما هو نفسي مثل : [ذبابة داخل رأسك ، حلقات مفرغة ، نافذة مغلقة، لتدّعي أنّك بخير، لست بخير،إنك الباب الموصد … يشبه الى حد كبير جسدك . ] لا شك أنّ هذه المصطلحات الوظيفية أضفت على النّص إحساساً نفسياً لمّاحاً يوحي بحالة الإكتئاب الحاد.
3 ـ البطل مكتئب مُستسلم لمعاناته النّفسية،يتلقى من السّارد/ الغريب وصفاً و إحساساً و أمراً. و لا يملك الاعتراض على أيّ شيء، كأنّه أمام طبيب مُعالج أدرى بحالته و ما يعتمل فيها… و كذلك شأن المُكتئب في انكساره و سلبيته…فهو لا يملك أن يكون معارضاً للذّهنية التي تسيطر عليه (Anti – intellectualiste) فالبطل يعيش اغتراباً (Alienation)
4 ـ النّص لمحة فّنّية لحالة إكتئابية حادّة : شعور بطنين ذبابة داخل الرأس، تجوب دوائر مفرغة سرعان ما يكتشف البطل أنّه هو تلك الذّبابة لأنّ الأفاق أمامه نافذة مغلقة.
الكرسي المهمل، و الكتاب الذي لم تنتهِ قِراءَته بَعدُ..هو البطل نفسه في شعوره بالإهمال و اللامبالاة، كالكرْسي المُهمل، و ما دام لا أحد يقرأ أفكاره، و يفهمها إلى الأخير. فكالكتاب الذي تُصُفِّحَ و لم يُقرأ حتّى الخاتمة …
و يضيقُ من وحدته و انعزاله.. فيفكر في صديق يقاسمه ما يُعاني فإذا الصّديق هو نفسه البطل،أمْسى يُحدث نفسه، و يَدّعي أنّه بخير، فيصرخ بداخله الكائن المرضي (لست بخير)
وكلّ ما حوله جنون في جنون، يدعوه لحفل بهيج، و ما عليه إلا فتح الباب ليشارك الآخرين لكن الباب ظل موصداً. لأنّ البطل هو الباب نفسه ، منغلق عن نفسه في عزلة و وحدة تبعث على الشّفقة. فتأتيه دعوة السّارد كصوت يسكنه بأنْ يعود إلى فراشه و يغرق في أرقه و قلقه و هواجسه، و أن يرسم طرقاً جميلة على جدران غرفته. و لكن:( عبر جسر صغير تعبره للموت أولا…) إذاً، لم يكن السّارد صوتاً عادياً، أو علامة فنية لسرد أحداث، بل كان هذا العامل النّفسي المرضي، الذي يقود البطل إلى حتفه، بعدما تفاقم اكتئابُه ، و بلغ مُنتهى أثره و تأثيره. فيفزع البطل إلى المرآة فبدل وجهه رأى : [الذبابة، والنافذة، والكرسي والكتاب، والصّديق، والباب..] لقد تماهي مع هذه الأشياء.و لكن ما تجلى له بعد ذلك كان صادماً و قوياً…
رأى جسداً علّق رأسه في حبل، يشبه جسده إلى حدّ كبير ، فيأتيه الصّوت من أعماقه: ..[ ليسَ أنت… فأنتَ ألان مجرّد حبل يتدلى من السّقف ]
فكما أشرنا في البداية أن الاكتئاب الحاد قد يؤدي إلى أذى بالنّفس، كالتّفكير في الانتحار أو الإقدام عليه و تطبيقه كيما يتخلّص المكتئب من هواجسه و من هذا الذي يتحكم في حياته و مشاعره من داخله…
5 ـ ملحوظة : نص “اكتئاب” أظنّه كما جاء في دفقته الإبداعية تمَّ نشره . فلو عني قليلا بمسألة التّهذيب، و كبح جماح السّارد العليم، و التّخلص من بعض هفوات الرّقن مثل : (ترسم على جدران غرفتك طرق جميلة ) و الصّحيح ( طرقاً)،أو (طرقات ) و(فتجد الذبابة والنافذة والكرسي والكتاب والصديق والباب وجسد عُلّق ..) و الصّحيح (جسداً)، هذا فضلاً عن بعض علامات التّرقيم و وضع الهمزة.. تلك أمورٌ لو لحقَ النَّصَّ مُراجعة لتلافتها القاصة.
و مع ذلك نُسجل أنّ نصّ “اكتئاب “، من النّصوص الجيّدة التي تفوّقت القاصة تبارك الياسين في نسج خيوطها بفنّية و براعة، فجعلت المتلقي يدخل عالم و سراديب “المكتئب”، فيحسّ بسلبيته و انكساره.. و مدى استجابته لهذا الذي يَسكنه، و الذي يُعمّق مأساته. إنّ الكتابة القصصية عند تبارك الياسين مختلفة عن المألوف، و الغالب في الأساليب المعتادة ، ففي كلّ نص من نصوصها يُحسّ المتلقيّ برغبتها في التّجديد، و الابتكار، و التّجريب و تلافي التّقليد و النّمطية…
تحياتي / مسلك
القاصّة تبارك الياسين رفقة القاصّة مديحة الروسان