ــ قراءة لـ (ق ق ج) : ” لصوصية ” للقاص زيد سفيان / اليمن
إنّ الفنَّ عموماَ، يَستلهم الأفكارَ و الرّؤى من الواقع المعيش. و قد يمازج استلهامه بين ما هو واقعي و ما هو محض خيال. و قد يكون الاستلهام من المبادئ و القيم و أحكامها، أو من نصوص الدّين و فروضه…و كلّما كانت قوّة الاستلهام قوية و عميقة و دالّة..إلاّ و اكتسب النّص أبعاداً من القراءة و التّأويل،و الاستيهام والتّخييل. كالذي نجدهُ في نص القاص زيد سفيان : ” لصوصية “
النص :
لصوصية
شاهَدْتهُم ينفّذون حدّ السّارق؛ فكّرتُ في من سرقت
دموعي، قلبي وعقلي..
ضحكتُ..
ياللغباء! كم تحتاج من الأيدي كي تتطهّر.
العنوان :
لصوصية : من لَصَّ لَصَصًا ، لُصوصيّة فهو ألصّ ، وهي لصَّاء والجمع : لُصٌّ .
لَصَّ فلانٌ: كَانَ لِصّاً أي: سارقاً . لَصَّ الشيءَ : سرقه و لفعل ” لصّ” معاني أخرى تفيد التّقارب (لصّ منكباه) فلان تقارب منكباه ،أو الضّيق ( لصّت جبهته ) بمعنى ضاقت ، أو التّستر (لَصَّ فِعْلَهُ : فَعَلَهُ فِي سِتْرٍ) و قد يعني الإغلاق ( لصّ الباب : أغلقه ) و لكن الأشهر والمتداول: لصّ: بمعنى سرق . و منه المصدر : “اللّصوصية ” أو ” التّلصّص “
إذاً : اللصوصية /السّرقة في اللّغة أخذ المال خِفية. أمّا شرعاً: أخذ مال الغَير خِفية ظلماً من حرز مثله بشروط معينة.
النّص ــ كما نلاحظ ــ قصير جِداً، في تسع عشرة كلمة. و أربع لقطاتٍ :
1 ــ [شاهَدتهم ينفّذونَ حدّ السّارق ]
السّارد ماراً بساحة ما ، شاهد منفذي الحكم الشّرعيّ بصدَد إقامة الحدّ على سارق. و مسألة حدّ السّرقة تستند لنص قرآني : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (سورة المائدة):38،و طبعا، ليس كلّ سارق تقطع يده بل لا بدّ لإقامة حدّ القطع من استيفاء ثمانية شروط حُدّدت في كتب الفقه الإسلامي.
2 ــ [فكّرتُ في مَنْ سرقتْ دموعي، قلبي وعقلي.. ]
السّارد و قد شاهد العملية، استدعت ذاكرته مَن سرقتْ دموعَه، و قلبه، و عقله.. استدعاء عاطفيا حزينا، يوحي بأنّ السّارد عانى من لواعج الحبّ، و الهيام… فبكى من حرقة معاناة، وألمِ هَجر، و أحسّ وكأنّما قد فقد قلبه، و عقله، لأنّ هاجِرته رحلتْ، و رحل معها كلّ ما يكتنزُ الإحساسَ و المَشاعر، و ما يَنتظّم الفِكر و المنطق و التّعابير ..فهي عملية سرقة مَوصوفة ( مجازياً) ، بعد وعود، و أحلام، و ذكريات…
3 ــ [ضحكتُ.. يا للغباء! ]
رغم مأساة الفراق و الهَجر، و السّرقة و الخِيانة، و الوعود الكَاذبة، و الأحلام الوردية التى جفّ مَعينها، و خبا بَريقها …كلّ ذلك لم يَمنعِ السّاردَ منَ الضَّحك !
ترى ممّا يَضحك؟ و هل مأساته العاطفية تثيرُ الضّحك؟ و لكنّه يعقب : يا للغباء! هل في قصته الغرامية غباء ؟ و هل هو نادم لأنّه أحبَّ من لا تستحق كلّ ذلك الحب؟ أم ترى هوغباء منها لأنّها لم تقدر عواطفه النّبيلة، ومشاعره الصّادقة ؟ لقد وظّف القاصّ صيغة التّعجب السّماعية التي هي أصلا لغير التّعجب، ثمّ تدل عليه بالاسْتعمال المَجازي. كالتّعجب بالنّداء.عِلماً أنّ” للتّعجب صيغتان معروفتان :(ما أفْعلَ) و (أفْعِلْ به).
4 ــ [كمْ تحتاجُ من الأيْدي كي تتطهّر.]
بعد الوصول إلى جملة الخرجة، يتبينُ أنّ الضَّحك الغريب لم يكنْ لهذا و لا لذاك، السّارد يَضحكُ ضِحكَ المَرارَة، و الإشفاق، منْ خليلةٍ لمْ تقترفْ سَرقة واحدة، بلْ ثلاث… و لكي تتطهر من رجْس السّرقة ( كم تحتاج من الأيدي)؟! يد للدّموع التي اسْتبيحت ، و يد للقلب الذي امتلكته عُنوةً، و يد للعقل الذي استبدّت به… وهي ـ مع ذلك ـ لا تملك إلا يدين اثنتين. فكانَ هذا مثار ضحكه المَرير…و وِقفـة تأمّل و و تدبّرٍ للمتلقي قصـد ُمساءلة المفـارقة السّردية (Anachronie narrative) .
فنيــاً :
1 ــ اعتمد النّص توظيف جزئية دينية تخصّ حدَّ السّارق فكان التناص (intertextualité) فرغم أنّ حدّ السّارق معطّل في مُعظم الدّول الإسلامية، و قد عوض بالعقوبة السّجنية، التي لا تساوي العقوبة الزّجرية كما في الدّين الإسلامي .و لكن القاص زيد سفيان وظّفها كحقيقة دينية، لا يمكن أن تلغيها الأحكام، والقوانين الوَضعية، أو الظروف و الأنظمة التّحكمية ، أو توالي الأزمنة و الحِقبِ المتتالة…
2 ــ مسألة حدّ السّارق لم تكن غاية و هدفاً في حدِّ ذاتها في النّص. بقدر ما كانت وسيلة توظيفية ساخرة، من معاناة عاطفية قاهرة، يلتمسُ من خلالها السّارد تخفيف لواعجه و لوعته، و ثقل صدْمته… و يكشف قيمة ما أُخِذَ منه في إطار تجربة عاطفية فاشلة.
3 ــ ارتباطُ العنوان بمكونات النّص:
ــ ارتباط العنوان بالبداية: لصوصية ← [شاهدتهم ينفّذون حدّ السّارق ]
ــ ارتباط العنوان بفكرة النّص: لصوصية ← [سرقت دموعي، قلبي وعقلي.. ]
ــ ارتباط العنوان بالخَرجة: لصوصية ← [ كم تحتاج من الأيدي كي تتطهّر. ]
4 ــ اعتمد النّص الجمل الفعلية [ شاهَدتهُم .. فَكرتُ.. ضَحكتُ..] لأنّ فكرة اللّصوصية تتطلب ديناميكية حركية، و تستوجب الفعل. لهذا كانت الجمل الفعلية مهيمنة.
5 ــ الخَرجَة، و قدْ جاءتْ جملة اسْمية تصدرتها (كمْ) الخبرية التي تفيد الكثرة. فالسّارد يستكثر عدد الأيدي ما دامتِ السّرقة مُتعدّدة، و هي وسيلة لاستعظام ما حلّ به ، و دعوة لتأمّل فداحة المُصاب العاطفي، الذي قد لا يُحسّه أحدٌ سواه. لهذا وظّف ( كمْ) الخبرية التي تعْرَبُ مثل (كمْ) الاسْتفهامية، فهي اسمٌ مبني على السّكون، يَختلفُ محلّه من الإعراب باختلافِ مَوقعه. و قد يُجرُّ تَمييزها بمنْ كمَا هو الشّأن هنا. لأنّه فُصلَ بَينها و بينَ تمييزِها بفعلٍ مُتعدٍّ ( كمْ تحتاجُ من الأيدي…)
6 ــ الجمع بين المفارقة الدرامية (paradoxe dramatique) والسّخرية (ironie) فالمتلقي يشعر بلوعة السّارد، و معاناته من فشل علاقة عاطفية، ثم فجأة ينتقل به النّص إلى خَرْجة ساخرة، تحيله على مدى كثرة الأيدي التي سَتقطعُ نتيجة هذه اللّصوصية ، و الّسّخرية:هل سارقة الدّموع، و القلب، و العقل…تملك أكثر من يدين ؟!
7 ــ توظيف السّرد الذاتي ( Récit subjectif) باعتماد (أنا) المتكلم. [ شاهَدتهُم .. فَكرتُ.. ضَحكتُ..] فالسّارد حاضر و مُشارك، بل هو بطل الحكي. ما يُعرف في علم السّرد بجواني الحكي (Homodiègétique) فالسارد هنا عليم بالأحداث و الشّخصيات.ما يشكّلُ تبئيراً داخلياً، و رؤية (مع).
8 ــ النّص ليس مُنغلقاً يخصّ الخليلة، و هَجْرها، و خيانتها فقط…بل هو منفتح على كلّ ما من شأنه أن يخيّب الآمال،و يسرق الأحلام، و ينسى الوعود…و الحياة مليئة باللصوصية و اللصوص الذين لا يراعون (إلاًّ و لا ذمّة…) و العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السّبب …
هنيئاً للقاص زيد سفيان بهذا النّص القصصيّ القصيرجداً. و العميق السّاخر المُمتع … فمنذ أن قرأت لهُ بعضَ نصوصه، اسْتشعرتُ هاجسً مَوهبةٍ قصصية مُتوهجة، و جَسستُ نبضَ نسقٍ سَرديّ مُختلف،يتبلور في كلّ نصّ كتابة رائقة شائقة…
تحياتي / مسلك