“لاأعتبر نفسي أستاذا للأدب، ليست لي ثقافة كافية للمهمة. أليس كذلك؟أحاول دراسة حقبة أو النبش فيها. كل ما أنجزته من كتب، تبقى بالنسبة إلي مجرد مضامين للتسلية”.
غاستون باشلار
اشتغل غاستون باشلار، على رافدين معرفين كبيرين، هما: العلم والأدب. لم تكن أبحاثه، بالنسبة للأول أو الثاني، مجرد محاولة أكاديمية للفهم أو إضافة تراكم ما، بل الجوهري، لدى باشلار، العالِم الموسوعي الفذ، عاشق الرياضيات والقصيدة، الفيزياء والرواية، الكيمياء والنحت، بنفس ذات الشغف والوجد، أنه أرسى دعائم قطيعة معرفية ومفهومية ومنهجية، سواء في تاريخ العلم أو الأدب.
هكذا، حقق ثورة نوعية بالنسبة لفلسفة العلوم، متجاوزا مرجعياتها الصنمية التقليدية، مطورا إياها، حتى يصبح في مقدورها ملاحقة ومواكبة، التطورات
السريعة التي عرفتها الرياضيات مع أزمة الأسس (هندسات ريمان ولوباتشفسكي)
أو الفيزياء (المفاهيم الجديدة لنظرية النسبية ومنظومة الميكروفيزياء
الدقيقة جدا).
بالموازاة مع ذلك، رسخ باشلار لبنات ثورة شعرية همت التصور السائد عن الخيال، غيرت تماما مجرى اهتمامات النص الأدبي، وقد تحول بدراسة إستتيقا النص من المجال الخارجي، المستند على الدراسات السيرية/البيوغرافية، وكذا المحددات الاجتماعية/العرقية، كما تجلى الأمر مع أنصار النزعة العلموية الكلاسيكية خلال القرن التاسع عشر (مدام دي ستايل/سانت بوف/هيبوليت تين).
أفق، أعاد باشلار من خلاله، النص الأدبي إلى مجاله الخاص، داعيا إلى التركيز، أولا وأخيرا، على مكوناته الجوانية، بدل الوقوف عند معطياته البرانية، السوسيو-اجتماعية. بفضل هذا الإلهام الباشلاري، تشعبت كميا وكيفيا، امتدادات الموضوعاتية/التيمية والبنيوية والتحليل الظاهراتي وحداثة الصورة الشعرية…، فأحدث حقيقة ثورة كوبرنيكية.
باشلار، المنتمي إلى قرية صغيرة تسمى “بار- سور- أوب” (Bar-sur-Aube) ، في منطقة شامبانيا الفرنسية. المنتمي من الناحية الجينية، إلى سلالة أسرة متواضعة جدا، امتهنت صناعة الأحذية، والذي ابتدأ حياته المهنية موظفا مؤقتا في مكتب البريد، لكنه تابع دراسته، فحصل سنة 1912على شهادة في الرياضيات، وانقطع قاصدا خنادق المعارك للمشاركة في الحرب العالمية الأولى كجندي خَيَّال، ودرَّس في ثانوية بلدته الفيزياء والكيمياء إلى جانب الفلسفة، سيتوج هذه الشق الأول من حياته، بدكتوراه في الفيزياء سنة 1927، والتحول إلى تدريس الفلسفة وتاريخ العلوم في جامعة ديجون والسوربون… ، ثم اختتم مساره، المُتناول هنا، على نحو سريع ومقتضب جدا، بمنحه سنة 1961 استحقاق الجائزة الوطنية الكبرى للآداب….
باشلار، الرافض بداية إحدى محاوراته الصحفية على مناداته ب”أستاذ”، بل يفضل الاكتفاء بتسميته غاستون باشلار، أو فقط باشلار، وقد دأب فعلا طلبته على مخاطبته بلقبه الشخصي، كما تؤكد ذلك، إحدى شهادات معاصريه: ((كنت أشاهده في هذا الرواق على امتداد سنوات، يتجه صوبي ويأخذني معه إلى مكتبه، يتحدث
لحظات قبل ذهابه نحو القاعة (c) حيث ينتظره هناك بلهفة وسعادة العشرات
والعشرات من الطلبة. يدخل مرتديا بشكل دائم لباسه الرسمي الأسود، شخص
رشيق وحيوي. وجهه: عينان سوداوان تتوقدان ذكاء. لحية وشَعر ببياض الثلج.
يدان تعيشان وتفكران بالنظرة والابتسامة في كل الوجود. طلبته يعرفونه، ولاينادونه سوى باسمه الشخصي)).
مع ذلك، رغما عن رغبة باشلار، يعتبر الرجل حقا وبكل لغات العالم، القديم والحديث والمستقبلي، ثم أينما وليت وجهك، أحد أساتذة الإنسانية الكبار، ومرجعا مفصليا بخصوص تأسيسات الحضارة البشرية، وقد امتلك عقلا جبارا، أهَّله بكل سهولة كي يكون: ((علميا مع العلماء، وشاعريا مع الشعراء)) ، لأن من يتوخى تبيِّن هندسة القنبلة الذرية، يلزمه التمرن قبل ذلك، على التماهي مع الإيحاءات المجازية للصور الشعرية، بحيث تعايشت داخل متن باشلار، نظريات وتأملات كل هؤلاء: ديكارت، رامبو، أينشتاين، بودلير، نيوتن، إدغار بو، برجسون، كافكا، لوتريامون، هولدرلين، بلزاك، فلوبير، ريلكه، فاليري، هيغو، نيتشه، شيلي، ريلكه، نوفاليس، بروتون، أراغون، غيوم، سانت بوف، سوينبرن، أفلاطون، بروتون، هنري ميشو، ديدرو، بوسكو، ألبير بيغان، رونيه شار، فان غوغ، برانشفيك….
قبل انتهاء باشلار، عند مرحلة كونه: “أستاذا سيئا، لتدريس الأدب”، فقد شكلت الحقبة الأولى ضمن مشروعه، اهتماما خالصا بما يجري داخل المختبرات العلمية، وانصب هاجسه المحوري على تخليص الممارسة العلمية من عوائق ”التجربة الأولى”؛”المعرفة العامة”؛”العائق الجوهري”، وضرورة تحقيق القطيعة بين المعرفة العلمية والعامة، والنظريات العلمية الجديدة والقديمة. ثم تبلور، سياق ثان، حسب المرحلة نفسها ضمن هذا النزوع الموضوعي، مع إصداره لكتاب: “التحليل النفسي للنار” (1938) ، بحيث تجلى تحمُّسه للتحليل النفسي، وهي اللفظة التي استعملها قبل هذا الموعد، عنوانا فرعيا؛هامشيا، لدراسته عن: “تشكِّل الفكر العلمي”، قصد الوقوف على الأخطاء والعقد والمكبوتات التي تمثل عائقا أمام تطور العلوم.
أما المرحلة الثانية، فقد تبنى خلالها باشلار الظاهراتية، مستحضرا مع فينومينولوجيا يوجين مينكوفسكي، مفهوم الرنين أو الصدى، قصد إرهاف السمع تماما لرنين الصورة الشعرية، في ذاتها، باستمرار ودون توقف، وهي تجدد انبثاقها الفوري، اللحظي، المنبعث على نحو لانهائي، مادام باشلار لم يعد يسعى سوى لمتعة القراءة، والحلم من خلال القراءة. يقول، بهذا الصدد: ((كم كنت أستاذا سيئا للأدب !لقد بالغت في الحلم وأنا أقرأ. أيضا، أفرط في التذكر. مع كل قراءة أصادف وقائع حلم يقظة)). يضيف: ((أفهم جيدا أنه يلزمني أن أدرس أكثر، لكنكم تطلبون مني أكثر مما ينبغي. لا أدري، لست مؤهلا للقيام بهذا المشروع. أتوخى على العكس من ذلك، تكريس ماتبقى لي من القوة، كي أواصل ما أنجزته. آه! أجدني مع تلك القصيدة غير المحكومة بوحدة كلية، لكنها تتضمن صورا جميلة. مثلما ترون، دوري متواضع جدا، ولا أعتبر نفسي أستاذا للأدب)).