قلنا إن الرواية هي (سرد)؛ وهو كلام الراوي، و(عرض)، وهو الحوار بين
الشخصيات، وطالما هناك سرد وعرض فهناك حكاية، أي مجموعة من الأحداث
والمواقف المتشابكة.
الرواية إذن هي
مجموعة من الأحداث تُروى، هذه الأحداث لابد أن تكون محكومة بالحبكة
الدرامية، وقلنا إن أحد النقاد الكبار وهو ” إدوارد مورجان فورستر” قام
بتعريفها ببساطة على أنها أسباب منطقية تؤدي إلى نتائج منطقية.
ونفهم
بداهة أن الأسباب هي أفعال، والأفعال لابد لها من فاعل، والفاعل في الرواية
هو الشخصية؛ إذن فمصدر الحبكة هو الشخصية، وكلما نجح الكاتب في بناء شخصية
حية ومٌقنعة؛ جاءت الحبكة قوية ومقنعة.
.
والحبكة تعني بتنظيم
حركة أفعال الشخصيات في الزمان والمكان، ومنطقية هذه الحركة، أي إنها عبارة
عن مجموعة أحداث مترابطة فيما بينها ترابط منطقي.
وهي تساعد على
تماسك عناصر العمل الروائي عن طريق السببية التي تعكس لنا منهجية تسلسل
الأحداث، وهذه المنهجية لا تعني التسلسل الزمني، إذ يمكن للرواية أن تكون
غير متسلسلة تاريخاً، لكنها ذات حبكة قوية، وهذا يرجع إلى طريقة تناول
الروائي للعمل، وطريقته في إقناع القارئ وجذب انتباهه.
.
الحَبكة في اللغة تعني ترابط الأجزاء التي تؤلف كلاًّ متلاحمًا.
ومنها الحُبكة -بضم الحاء- وهي الحبل يُشد به على الوَسط
والله تعالى يقسم في مُحكم تنزيله بالسماء ذات الحُبك، أي ذات الخلق الحسن المستوي دون ثغرات.
وعند العامة؛ فالشيء المحبوك هو المصنوع بحرفية.
وكلها تؤدي إلى نفس المعنى الذي استخدم لأجله اللفظ في البنائي الروائي،
فالحبكة الدرامية هي التناسق البنائي لأجزاء العمل الدرامي بحيث تبدو
أحداثه مترابطة ومقنعة.
أما حبكة الرواية ذاتها فهي السياق العام
وترابط الأحداث وتسلسلها وفق خطة خاصة يرسمها الروائي كي تخرج الرواية من
بدايتها إلى نهايتها مترابطة كنسيج واحد.
ومن هنا نفهم أنه على الكاتب
أن يصنع لروايته مخطط درامي قبل أن يشرع في التفصيل، وربط الأحداث، وأهمية
المخطط الروائي تكمن في ألا يتوه الكاتب وسط روايته أو يصيبه الملل
والتشتت، أو ينسى بعض التفاصيل التي يؤثر نسيانها على سيرورة العمل كله،
وتخلق ثغرات في الحبكة الدرامية لروايته.
وسوف نتناول طريقة رسم هذا المخطط تفصلاً في القسم التطبيقي بإذن الله.
.
مرة أخرى؛ الحبكة مصدرها الشخصية، وهذا ليس مطلقاً وإنما هو الأساس، وحين
نتحدث عن الشخصية في العمل الروائي؛ فنحن أشبه بمن يفتح للريح باب فتدهمه
عاصفة، لأن الحديث عن أنواع الشخصيات، ودوافعها، ورغباتها، وغايتها، وطريقة
رسمها، وتفصيلها؛ هو حديث طويل.
لكننا سنحاول اختصاره قدر الإمكان وتناوله ببساطة كي لا يصبح إسهاباً أكاديمياً يورث الملل.
انظر إلى الشخصيات في حياتك الواقعية، واستحضرهم في ذاكرتك.
أهلك، أصدقائك، أحبائك، البائع الذي اعتدت أن تشتري منه الفطور، ذلك الرجل
الذي قابلته صدفة في محطة القطار، أو تصادف أن جلس إلى جوار بمترو
الأنفاق، تلك الفتاة الفقيرة التي كانت تبيع المناديل، أو الجميلة التي
جمعتك بها قصة حب، وغيرهم..
استحضر هؤلاء إلى ذاكرتك الآن؛ وسوف تكتشف أنك أمام بحر من الأنماط، والسلوكيات، والدوافع، والأهداف، والغايات، والرغبات.
ستكتشف أن منهم شخصيات محورية لها وجود ملموس وتأثير واضح في حياتك، ومنهم
شخصيات ثانوية ليس لها ذات التأثير، ومنهم شخصيات هامشية.
ستجد منهم
الذكي، والغبي، والعالم، والجاهل، والمغرور، والمتواضع، والأناني، ومثير
المشاكل، والشقي، والوديع، والطيب، والشرس، والشرير أيضاً.
ستجد منهم
المريض، والرياضي، والمفكر، والفيلسوف، والعشوائي، والمحترم، والمتدين،
والخجول، والفاشل، والناجح، والمحبوب، والمكروه، والغني، والفقير.. وهلم
جرا..
هذا بحر خضم من الشخصيات، وهي لا تنفصل إطلاقاً عن عملك الروائي،
وسوف نشرحها ببعض التفصيل في المحاضرة القادمة إن شاء الله وهو الجزء
الثاني من الحديث عن الشخصية.
.
الشخصية في الرواية هي الفاعل الذي
يقوم بالفعل، ويُنشأ الحدث في زمان ومكان معين، وأهمية الشخصية تكمن في
ضرورة بنائها بناء محكما كي تصبح في العمل شخصية حية وليست مجرد شخصية
ثنائية الأبعاد.
والمقصود أن يتفاعل معها القارئ كأنها من لحم ودم،
يحزن معها ويفرح معها، وكلما نجح الكاتب في بناء شخصية قوية، نجح في تقديم
عمل حي كأنه قصة حقيقية يتفاعل معها القارئ.
وشخصيات العمل الروائي لا
تنفصل عن تلك الشخصيات التي نقابلها في العالم الواقعي، وتنقسم إلى شخصيات
أساسية، وأخرى ثانوية، لكن الخطأ الذي قد يقع فيه الكاتب هو تقديم شخصية
لا تضيف إلى الحبكة، أو بمعنى أبسط ليس لها دور يدفع الأحداث نحو مجراها
الذي خطط له الكاتب.
.
غالباً ما تكون هناك شخصية محورية أساسية،
أو بمعنى أبسط بطل الرواية، وأقول غالباً لأن البطل الرئيس قد لا يكون شخص
واحد بل مجموعة أشخاص، وقد لا يكون إنسان، ربما حيوان، وربما جماد أيضاً،
وهناك بعض الأعمال يلعب فيها المكان دور البطل، وأعمال أخرى يلعب فيها
الزمن دور البطل، لكن الغالب أن يكون شخص واحد، إنسان من لحم ودم يحمل
أطراف حكايتك والرسالة التي تريدها أن تصل إلى القارئ.
ولقد تعددت
وتطورت الأنماط الشخصية والسلوكية للبطل في الرواية منذ نشأتها وحتى الآن،
ولا يسعنا الوقت بطبيعة الحال لسرد هذه الأنماط وكيف تطورت وكيف تناولها
النقاد بالشرح والتحليل، وبرابط زمني، لكن ما سنحاول التركيز عليه هو
التطور الذي حدث على شخصية البطل منذ العصور الكلاسيكية وحتى الآن.
.
عندما نشأت الرواية؛ ذهب الروائيون إلى تجسيد البطل في صورة شخص شبه كامل،
ملئ بالمثل والقيم والمبادئ، ولكن مع مرور الزمن بدا هذا التصور بعيد عن
الواقع، فالحياة مليئة بالأبطال البسطاء والمهمشون، وهنا ظهر البطل
الصعلوك، والأبطال الحرافيش، بعيدا عن قصص الشطار والخارقون، وعند هذه
النقطة بدأت الرواية تحقق نجاحاً ملحوظاً بين جمهور البسطاء باعتبارها
تجسيداً لحياتهم وواقعهم.
من هنا نفهم أن شخصية البطل لابد ألا تكون بمعزل عن الحياة التي نعرفها، وسأعطيك مثال من الدراما عله يساعدني لتوضيح المقصود أكثر.
في الثمانينيات، قدمت الدراما المصرية عدد من الأعمال السينمائية
والتليفزيونية المعتمدة على قصص واقعية من ملفات المخابرات العامية،
والانتصارات التي حققها هذا الجهاز في الصراع المخابراتي مع العدو
الصهيوني.
لنأخذ الآن عملين دراميين فقط للتدليل على أهمية رسم شخصية البطل؛ العمل الأول هو “دموع في عيون وقحة”، والعمل الثاني هو “الثعلب”.
ولعل أغلبكم لا يعرف المسلسل الثاني لأنه لم يلق نجاحاً جماهيراً كنظيره
الأول، والأسباب وراء ذلك كثيرة لكنها ليست محور حديثنا، إذ أن نقاد
الدراما أقدر على شرح هذه الأسباب تفصيلا، لكن ما يهمنا من هذا المثال هو
سبب واحد يعود إلى شخصية البطل.
في مسلسل “دموع في عيون وقحة”، كان
البطل إنسان عادي، مثلي ومثلك، يشبهني ويشبهك، وهذا أمر جعلنا نرتبط به،
أما في مسلسل “الثعلب” كان البطل ضابط في المخابرات العامة وليس شخص عادي،
أي أنه نمط من الشخصيات بعيد إلى حد كبير عن القاعدة العريضة للبشر.
الشاهد من كل ما سبق هو أهمية أن يختار الكاتب بطلاً يشبه القارئ حتى يخلق
ارتباط نفسي بينهما، لأن أحد أسرار نجاح الرواية هو أن يعيشها القارئ كأنها
حكايته هو، أو على الأقل يتمنى أن يعيش حياة مثلها.
وهذا مثال
للتقريب فقط، إذ قد يكون البطل شخصية خارقة ويحقق النجاح المرجو منه، السر
يكمن في العمق الإنساني للشخصية، وهو ما سوف يتضح لاحقاً.
.
قلنا
إن الشخصيات في العمل الروائي هي إما شخصيات رئيسية؛ تحمل أطراف الصراع
والأحداث الأساسية، وتؤثر تأثيراً كبيراً على سيرورة الحكاية، وإما شخصيات
ثانوية.
ولا تظن بأن الشخصية الثانوية ليس لها قيمة، فهي عامل مهم
ومساعد يدفع الأحداث، ولها تأثير كبير ولكنه ليس مصيري، على عكس الشخصية
الرئيسية التي قد يكون لها تأثير مصيري على الأحداث.
كيف إذن نستطيع تقسيم الشخصيات وتحليلها وبنائها؟
هذا موضوع المحاضرة القادمة بإذن الله.
.
انتظروا محاضرات الدورة الأربعاء من كل أسبوع، ورجاء التعليق والمشاركة
والإشارة إلى الأصدقاء إن كانت مفيدة، وحتى نعرف المهتمين بها كي يحصلوا
على الكتاب الكامل لهذه الدورة عند انتهائها كهدية.
.
ونستكمل في المحاضرة القادمة بإذن الله الحديث عن الشخصية في العمل الروائي.
#دار_لوتس_للنشر_الحر
موقع الدكتور مسلك ميمون