سعي
الآن بدأت أعي وبعد عمر طويل وكدح شاق ، أن كلّ ما قمت به كان من قبيل مقاومة اللقاء به، وإطالة المسافة غير السعيدة بيني وبينه..
لا أدري إن كنت أتقدم منه بمقدار ما كان يتقدم مني، وإنني كلما كبوت، نهضت ومضيت إليه..
الآن ها أنا أخطو نحوه بكامل يقيني به، وها هو يخطو نحوي بكل حتميته وصلافته، فيتبين لي أنًّ مسعاي نحوه يوازي مسعاه نحوي، الفارق بيننا أنه يسعى إليّ ويغني، وأنا أسعى إليه وأبكي..
أنف الجد
فجأة وكمن
فزّ على سرّ، أعلنت حفيدته لارا التي يكنيها بلولي؛ أنفك كبير جدّو! على
مدى ثمانين عاما لم يعلن له أحد ذلك..لكنه أجابها معترفاً بالهزيمة؛ بمثل
كلامكِ هذا، وقبل عشرات أو مئات السنين، فضح قرينُك في العمر ملابسَ سيده
الإمبراطور حبيبتي.
لم تفقه لولي كلام جدّها، فضلاً عن ذلك أردفت؛ ثم إنه يشبه أنف الثعلب جدّو!
مثلٌ بمثلْ
تطوّفت حول أذنيه.. حطت على ذراعيه، وتهوّمت على مدار جبهته وحدبة أنفه
وزوايا عينيه.. يزعجه طنينها وتقرفه لوامسها. ومهما حاول طردها أو التخلص
من لزوجتها واصلت العنود غوايتها.
تقف في الأخير على أطراف أنامله
التي يكتب بها قصته، وتدبّ مجدّة تبحث عن شيء بينها.. يذهله وجهها العابس،
وإصرارها الصفيق غير المكترث بشيئ من حولها.
يشحذ ذهنه الذي كدّه العمل القصصي غير المربح أبداً، ليعاقبها بشيء آخر ما دامت تمتلك، هذه المقدرة العالية على المناكدة والعناد..
يفتش عن وسيلة هنا وهناك؛ لم يجد غير أن يطفئ النور..فالذباب لا يقتله غير الظلام.. مثلما لا يقتل القصص سواه كذلك.
نوم نادل الحانة
أم كلثوم تغني عن الحب، والتصفيق يتعالى. نادل الحانة الذي فشل في حبه
وهيامه، تضايقه آهات أم كلثوم وتكرار روحي وقلبي. يستغل لحظة ركود الطلبات
لينام هنيهة على كرسي في زاوية من الصالة.
يغلق التلفاز فيضايقه هذه المرة، هدير لغو السكارى وكثرة الآهات. يعود يفتح التلفاز.
يؤجل النوم إلى ما بعد منتصف الليل عندما يعود إلى بيته..هناك وهو يخلد
إلى نوم مثقل بالرهق والضجيج، تبدأ كوابيس أحلامه الملتاثة، بين هدير
السكارى ونواح أم كلثوم مرة أخرى..
المهمة
أثناء ذهابه إلى
الاجتماع الذي بعنوان “ثقافة العصر وحداثة الأداة” والذي ستتنطع فيه الخطب
والملابس والعطور، اكتشف بقعاً صغيرة غبارية أو دهنية، توزعت على أجزاء من
بذلته لزم عليه وهو في سيارته، أن يزيلها سريعاً.. قبل أن يفكر في شيء من
أشياء كثيرة بعدت عنه الان، لم يجد غير أن يغمس طرف سبّابته يبلله بمسيل
من لعابه ويظل يمسح به البقع الواحدة بعد الأخرى.. كانت المهمة سهلة، ثمّ
أنها كانت يدوية وبدائية كذلك!
بائع الورد
يجول بين الناس على رصيف شارع عام. بين آن وآن يسرق شمّاتٍ من عطرِ وردهِ الذي يبيع، فيكتسي وجهه الأسمر بشعاع فيّاض.
يفرح كلما باع، ويعدّ نقوده كل وقت. لكنه لما يعود إلى البيت يحس عطره
اللذيذ قد نفد أو طار، فيبحث عن وردة هنا أو وردة هناك فلا يجد..
يحزن إذ وحدها هنا تفوح عفونة الدنانير.
تحذير حاد
قرأ قصتها وأعجب بلغتها وأفكارها .. كتب لها؛ قرأت بمتعةٍ قصتكِ وأدهشني
رخاء حروفك. أعرف، بحسب ما رأيت من صورك، مقدار جمالك.. ترى أصوتكِ كذلك؟
وماذا سيكون عليه إذن صدى كلماتك.
لا تتصلي رجاء..زوجتي الميتة قد تسمعك!
الأصابع
كل صباحٍ باكرٍ حين انهض قبل صديقي المتوتر في النهار، يثيرني لعب أصابع
يده خارج غطائه وهو ما يزال في عزّ نومه؛ فمرة يحسبها بإبهامه، ومرة يوحّد
أحداً ما، أو يهدده بسبّابته، ومرة تلعب بعضها في الفراغ كما لو على آلة
بيانو أو آلة قانون، ومرة تنضم على بعضها كمن يؤشر بها على مجملِ قولٍ، أو
خلاصةِ موضوع، أو دعوةٍ إلى صبر. قلت له ذات صباح؛ أُحسّني متوتراً دائماً،
وأجدني في حاجة إلى طبيب نفساني أعرض عليه حالتي لئلا يشتد هذا عليّ. قال
لا بأس فربما كنتَ في حاجة إلى ذلك، فأما أنا فلست في حاجة إلى شيء من هذا
والحمد لله.. قلت له؛ نعم ولكن متى عرف المريض مرضه شُفي.
الجبان
لأنه جبان رعديد نسي أن الليلة ليلة أعياد السنة الجديدة، فظن ألعاب
الأطفال النارية رصاص حيّ متبادل بين أعداء، لذا أطفأ الأنوار وضم رأسه تحت
لحافه السميك وتركهم يتقاتلون حتى الصباح!
…وخذ عتابْ
على
رهوٍ كأنه عاشق خسران، يمشي على رصيف مجاورٍ دجلةَ، منسابٍ معه كموجة من
موجه الوثير.. من بين جوانحه أو من أماكن بعيدة لا يدري، تصدح أغنية سوداء
تغنيها امرأة جنوبية تسمّت باسم رجل وشُهرت به..”سودا شلهاني.. ما رحت ويّا
هواي”.
يحزن مع الأغنية، بل يطاولها في البكاء، ويعتب على كلماتها
المحزنة التي شدهتْه عن تلمس خطواته على الشريط الأسود الضيق حتى كاد يهوي
في النهر.
يتساءل عن لوعة هذه الأغنية والعتب فيها وكأنها آخر أغاني
المرارة والعتاب. يعود إلى نفسه، يطوف في أرجائها، فيضحك مما تكتنفه من
غناء شبيه.
يسأل؛ إنْ كانت هذه الأغنية ترغب في المزيد من هذا الذي يسلب الفؤاد ويحزن الروح؛ فيقول؛هات ليلْ…..