الحدث الواقعيّ والبُعد الرّمزي
إنّ فلسفة الرّمز في السّرد أو في الفنّ عموماً.تعتمد استبطان الكلام ، و التّلميح للمبتغى و الأثيرمن الأشياء، وتجنّب المباشرة والوضوح، و فسح المجال للتّخمين و التّأويل و تعدّد القراءات، و إثارة ما في الذّهن من كوامن و مَخبوءات..
لذا كان الشّغف بالرّمزية (Symbolism).في السّرد و الشّعر بل في كلّ الفنون الجميلة.. إلا أنّ توظيفها ليس بالأمر السّهل، و بخاصّة لدى الذين يقصدونها لذاتها، إضفاء على أعمالهم صبغة الخِلاف و الغَرابة و شيئاً من الغموض..و لكنّها تيسّرت للبعض، الذين اسْتوعبوا فلسفتها، ودورها كوسيلة لا غاية، فكانوا على إلمام بالرّمزية و أنواعها،في مجال التّطبيق الفنّيّ . مع حسن توظيفها، خدمة للنّص و فكرته، و بُعده و دلالته..و بذلك كان أحسن الرّمز ما يأتي تلقائياً، عفوياً .. بدون تخطيط أو بَرمجة، و لا تعسّف وقصدية.. بل هناك من المبدعين من يتبلور الرّمز داخل أعمالهم فيُبهرهم هم أنفسهم،لأنّه وليد التّركيب اللّغوي، لا المصطلح الحضاري: إغريقيا كان، أو رومانيا، أو فرعونيا، أو أشوريا…من الحضارات التي سادت ثمّ بادت. و من هؤلاء، القاص حنون مجيد الساعدي، فرغم انتمائه للعراق، حيث كانت حضارة بلاد الرّافدين القديمة في الشّرق الأدنى. التي غذّاها نهرا دجلة والفرات و التي هي أقدم حضارة في التّاريخ الإنساني، آثارها ماثلة واضحةً في كلّ من أكّاد، وبابل، وآشور.. حضارة شادتها مماليك قوية: كمملكة السّومريين، و مملكة الأكاديين، و مملكة البابليين، و مملكة الآشوريين..و حسبها حضارة أفرزت (قانون حمورابي).. و مع ذلك، لا يعمد القاص حنون مجيد إلى المصطلحات الحضارية في أغلب كتابته القصصية، و لكن الرّمز يأتيه طوعاً، من تراكيبه السّردية، مما يحقّق لكتابته العفوية والتّلقائية الفنّية…
النص :
مثلٌ بمثلْ
“تطوّفت حول أذنيه.. حطت على ذراعيه، وتهوّمت على مدار جبهته وحدبة أنفه وزوايا عينيه.. يزعجه طنينها وتقرفه لوامسها. ومهما حاول طردها أو التخلص من لزوجتها واصلت العنود غوايتها.
تقف في الأخير على أطراف أنامله التي يكتب بها قصته، وتدبّ مجدّة تبحث عن شيء بينها.. يذهله وجهها العابس، وإصرارها الصفيق غير المكترث بشيئ من حولها.
يشحذ ذهنه الذي كدّه العمل القصصي غير المربح أبداً، ليعاقبها بشيء آخر ما دامت تمتلك، هذه المقدرة العالية على المناكدة والعناد..
يفتش عن وسيلة هنا وهناك؛ لم يجد غير أن يطفئ النور..فالذباب لا يقتله غير الظلام.. مثلما لا يقتل القصص سواه كذلك.”
1 ــ العنوان : مثلٌ بِمثل، جاء العنوان جملة اسمية.و قد اقتبس من الحديث الشّريف : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ ، فَمَنْ زَادَ ، وَاسْتَزَادَ ، فَقَدْ أَرْبَى الآخِذُ وَالْمُعْطِي سَوَاءٌ ” . بمعنى سواء بسواء.
2 ــ البنية الدلالية:
ينقسم النّص إلى ست مقاطع :
2/1ــ [تطوّفت حول أذنيه.. حطت على ذراعيه، وتهوّمت على مدار جبهته وحدبة أنفه وزوايا عينيه..]
يمكن تحديد هذا المقطع بالازعاج الحركي: ( تطوّفت..حطّت.. تهوّمت ..) ولا شك أنّ حشرة كالذبابة تكون مزعجة، رغم محاولات طردها و الهشّ عليها، فإنّها تغادر لتعود حتّى قيل بأنّها بغير ذاكرة. و في المثل السّائر” أطرده من هنا يعود كالذبابة من هنا “.و كلّ ذلك يثبت انّ ذاكرتها ضعيفة جداً، لا تتعدى خمس ثواني.
2/2 ــ [يزعجه طنينها وتقرفه لوامسها. ومهما حاول طردها أو التخلص من لزوجتها واصلت العنود غوايتها. ]
يمكن تحديد هذا المقطع بالازعاج الصّوتي / الطنين. و القرف من ملامستها للبطل، لما تحمله من جراثيم، وبخاصّة أنّها تحطّ على أماكن موبوءة ، و ملوّثة و وسخة .. ولا ترتدع لعنادها الفطري، و ضعف ذاكرتها، و كأنّها تمارس هوايتها في الطّرد والعودة .
2/3ــ [تقف في الأخير على أطراف أنامله التي يكتب بها قصته، وتدبّ مجدّة تبحث عن شيء بينها..]
و يمكن تحديد المقطع الثالث بالانزعاج من توقف الذبابة فوق أنامل البطل/الكاتب، و بَحثها ما بين انفراجات الأنامل، بخرطومها اللّزج، لا شكّ أنّ كلّ ذلك يسبب له ازعاجاً و تبرّماً و بخاصّة أنّه متعلم ، و على دراية بما تحمله الذبابة من مضار.
2/4 ــ [يذهله وجهها العابس، وإصرارها الصفيق غير المكترث بشيئ من حولها. ].
المقطع الرّابع إضافة أخرى لحلقات الإزعاج، فهو إزعاج من الشّكل و الإصرار. فشكل الذبابة و إن كان مألوفاً إلا أنّه مُقرف عابس ،تشمئزّ منه النّفس التي ألفت الطّهر و النّظافة..
2/5 ــ [يشحذ ذهنه الذي كدّه العمل القصصي غير المربح أبداً، ليعاقبها بشيء آخر ما دامت تمتلك، هذه المقدرة العالية على المناكدة والعناد.. ]
أمام كلّ هذا الإزعاج و القلق.. أصبح البحث عن حلّ للتّخلّص من الذّبابة جدّ ملح، لكي يركز البطل / الكاتب على دبج نصه القصصي، بعيداً عن كلّ إرباك ممكن ..
2/6 ــ [يفتش عن وسيلة هنا وهناك؛ لم يجد غير أن يطفئ النّور..فالذّباب لا يقتله غير الظلام.. مثلما لا يقتل القصص سواه كذلك ]
انبثقت فكرة الظّلام في ذهن البطل ، فأدرك أنّ الحشرات تنجذب إلى الضّوء ما يعرف بظاهرة الإنجذاب الضّوئيّ (Phototaxis) و هي غريزة طبيعية في الحشرات . بينما بعضها كالذّباب، و إن كان يغويه الضّوء و ينعشه ،فإنّه يخلد إلى الرّاحة في الظّلام، في انتظار ضوء النّهار. فكأنّ الظّلامَ الدّامس يَشلّ حَركته أو يقتله, كما تقتلُ عَتمة الغموض، و الإبهام روح القصِّ. فالقتل المجازي مثلُ بمثل، و سواء بسواء، بين الظلام و الذّبابة ، و ظلام الإبهام و القصّ.
3 ــ البنية الفنّية :
3/1 الإقتباس و نلمسه ــ كما قلنا آنفاً ــ في العنوان ( مثل بمثل ) لأنّ الاقتباس تضمين النّص شيئاً من القرآن الكريم ،أو الحديث الشّريف، و هنا نجد عبارة من الحديث. تشاكلها صياغة عبارات أخري: [: ” الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ.. وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ .. وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ .. وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ .. وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ .. وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ .. مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ ]
3/2 دقة مَحطات وقوف الذّبابة:[ حول أذنيه، على ذراعيه،على مدار جبهته، و حدبة أنفه، و زوايا عينيه..] و في هذا قوّة ملاحظة و تتبع تصويريّ، يشعر بواقعية طيران الذّبابة ، و تحليقها في طوافها حول الشّخصية.ما يجعل النّص يتّسم بلغة الجَسد(Body language).
3/3 الاحتفاء بالجمل الفعلية : [ تطوّفت ، حطّت، تهوّمت، يزعجه، تقرفه، حاول، واصلت، تقف، يكتب، تدبّ، تبحث،يذهله ،يشحذ، كدّه ، ليعاقبها، تمتلك .] الشّيء الذي خلق ديناميكية و حركية أساسها التّعبير المرئيّ ( Visual thinking) الذي يعكس غواية الذّبابة، و كثرة تنقلها و طَنينها المزعج..
3/4 توظيف النّعت كصفة دالة على التّميّز : واصلت
العنود، وجهها العابس، إصرارها الصّفيق، المَقدرة العالية.
3/5 العلاقة بين العنوان من جهة و البداية و الخرجة من جهة أخرى. هي علاقة إطار
تنسجها البداية كسبب مباشر، و تنتهي إليها الخرجة كقرار قابل للتّنفيذ. فتعمد إلى
وصفه و تحديده كحقيقة افتراضية (Virtual reality)
ــ البداية : [ تطوّفت حول
أذنيه.. ] : و في ذلك إزعاج من طنينها،
يفقد الصّبور صبره.
ــ الخرجة :[ لم يجد غير أن يطفئ النّور..فالذّباب لا يقتله غير الظّلام.. مثلما
لا يقتل القصص سواه كذلك]: للخروج من دائرة القلق و الإزعاج، و التماس للهدوء و
الاطمئنان كان الحلّ في إطفاء النّور، فالذّباب لا ينتعش في الظّلام. و كأنّه يُقتل،
كما تقتل روح القص في النّص إذا عمّتهُ
حلكة الغموض و الإبهام..
ــ العنوان: أطَّرَ كلّ ذلك في عملية تشابه و مماثلة.بين قتل الذّبابة بالظلام
كقتل النّص بالغموض (ambiguity)،
مثلٌ بِمثل.
3/6 الرّمز . إنّ عملية الإبداع ، و بخاصّة الكتابة تتطلب هدوءا و تركيزاً، و بُعداً عن الضّجيج و ما يشتّت الانتباه و الذّهن.. فما بالك إذا كانت في المكتب ذبابة عنيدة، مزعحة بطنينها، مقرقة برأسها العابس، غاوية المناكدة و العناد ..لا شكّ ستجعل عملية الإبداع صعبة.. هذا إذا أخذنا الأمر على ظاهره، و لكن القاصّ لم يهدف إلى ذلك، لأنّ الذبابة تأخذ بعداً رمزيا.يخص السلوك الإزعاجي لدى البعض .
بل تصبح تمثل كلّ مزعج في الحياة، يستوجب التّخلّص منه بطريقة أو بأخرى، لنتمكن من العيش الهادئ الذي يسمح بالإنتاج و الإنتاجية، في نسق من الإبداع الرّاقي. فالبطل حين قرّر أن يعاقب، فمعنى ذلك أنّه قرّر أن يبدل طبعه ،و يُغيّر نفسه من وضع الاستسلام إلى وضع الفعل. و كأنّي بالنّص يلمّح للمثل الانجليزي :” عندما تتغير الحياة لتصبحَ أقسى غير نفسكَ لتصبحَ أقوى.”
( When life change to be harder change your self to be stronger )
فهنيئاً للقاص حنون مجيد الساعدي على هذا النّص القصصي الذي اتّسم بسبك المَبنى، و عُمق الدّلالة.في إطار من الصّورة الرّمزية اللمّاحة الهادفة..دون مصطلحات غريبة، أو إحالات غامضة.. نص استعان بالحقيقيّ الواقعيّ المألوف / ذبابة ، في إشارة فنّية لما هو أبعد من ذلك، كالسّجايا، و الطّباع المزعجة العنيدة..