الـ (ق ق ج) سرد و حكي و أسلوب (3)



الـ (ق ق ج) سرد و حكي و أسلوب (3)

    كلّ قصّة قصيرة جداً، هي نتاج فردي ذاتي، يخصّ القاص من حيث وعيه، و ثقافته، و رؤيته للعالم.. فالقاص لا يكتب النّص بتجرد و حياد  تام، و إن حاول. فكثير من الأشياء الذاتية و اللاشعورية تنعكس على النّص في شكل ألفاظ، أو تراكيب، أو وجاهات نظر.. يُستشف منها مدى وعي القاص بفنّه ، و تمكنه منه .و من تمّ لا يمكن القول أن النّصوص في القصّة القصيرة جداً تتشابه، لأنّ ذلك محكوم بسردية ذاتية مُستحكمة. كما أنّه يمكن التّمييز بين النّص القصصي من غيره، و الفيصل في ذلك يعود لتوفر ثلاثة ركائز، لا تقوم القصّة إلا عليها: السّرد، و الحكي، و الأسلوب ,
    و نعني بالسّردية الطّريقة المنتقاة من طرف القاص لكي يروي قصّته، بشكل فنّي ممتع هادف..  فالسرد عملية تنظيم للأحداث، و الشّخصيات و التّفضئ ،و الأزمنة.. و القصّة القصيرة جداً  كباقي السّرديات ، ما هي إلا سرد لحدث، و تقديم لشخص، أو شخصيات في مكان وزمان معين، قد يحدّد، و قد يفهم من السّياق، و من العلاقات التّرابطية السّردية. التي تشكّل الفضاء العام للنّص.و الذي لا يقتصر دوره على عرض الحدث أو الأحداث، و إنّما نسجُ شبكة من النُّظُمِ التّواصلية مع المتلقي، فبدون تواصلٍ، و اعتمادهِ، تستحيل فكرة النّص جثة هامدة. كخيط الهاتف إذا انعدمت فيه الحرارة.
و السّرد أنواع كثيرة، فأهمّها و أكثرها تداولا، أوّلا: السّرد البسيط الذي تتوالى فيه الأحداث بشكل مُنتظم ،أو أحياناً  بتقديم و تأخير، في انزلاق إلى نقطة النّهاية.  في شكل أفقي. ما يُعرف بالبنية السّردية السّطحية (Surface structure). ثانياً السّرد المُركب حيث تكون حكاية داخل حكاية فالأولى رئيسة، و الثانية ثانوية،و قد يندرج فيما يُعرف بالبنية السّردية العميقة (Deep structure) فالقصّة القصيرة جداً إحتفت بالنوعين معاً، و إن كانت أكثر احتفاء بالنّوع الأوّل في الغالب لضرورة حجمها. ودواعي التّركيب، و التّبئير، و الإيجاز..

    أمّا الحكي أو الحكائية ، فهي مادة الحكي، إذ القصة بكاملها هي الحكي ، و الحكي عام و السّرد خاص،و يقوم الحكي على دعامة الوصف بشكلٍ أو بآخر، و الوصف في الحكي ذو وظيفتين:وظيفة جمالية، و وظيفة تفسيرية، ولا  يقوم إلا بلغة قصصية محضة، لا صلة لها تركيباً باللّغة المعيارية الإخبارية. و الحكي يشغل المسافة بين نقطة البداية و نقطة النّهاية. و الخلاف واضح  بين الحكي في القصّ الكلاسيكي الذي كان يُراعي مدى الانسجام بين البداية و النّهاية فقط. و بين الحكي في القصّ الحديث الذي يُراعي الممكن و المُحتمل لخلق نهايات لا تعتمد منطق السّببة، و تخرق بالتّالي أفق توقع المتلقي، لخلق عوالم جديدة،وأفكار مختلفة.. و بذلك تتحقق ( الحكائية )في الكلام أي كلام، من خلال العناصر التّالية:
ــ فعل أو حدث قابل للحكي.
 ــ فاعل أو عامل يضطلع بدور ما في الفعل.
ــ زمان الفعل.
 ــ مكانه أو فضاؤه.
و إن كان عنصرا الزّمان و المكان، قد يغيبان كتابة في القصة القصيرة جداً أحياناً.

      أمّا الأسلوب فله ارتباط و طيد بشخصية القاص الثّقافية واللّغوية و الفنّية لأنّها تنعكس جمالياً على النّص، و إلى ذلك ذهبت الآراء قديماً وحديثاً: قال (أفلاطون):”كما تكون طبائع الشّخص يكون أسلوبه” . وقال (بوفون): “الأسلوب هو الإنسان نفسه.” وقال (جوته): “الأسلوب هو مبدأ التّركيب النشيط، والرّفيع، الذي يتمكن به الكاتبُ النفاد إلى الشّكل الدّاخلي للغته، والكشف عنه”. فالأسلوب هو فنّية الأدء اللّغوي، و جمالية التّشكيل التّركيبي، و هندسة الخلق من حيث التّنوع و الابتكار، و الانتقاء اللّفظي… لذلك قال : (ستاندال): الأسلوب هو أن تضيف إلى فكر معين جميع الملابسات الكفيلة بإحداث التأثير الذي ينبغي لهذا الفكر أن يحدثه. ويقول (ريفاتير): الأسلوب هو البروز؛ الذي تفرضه بعض لحظات تعاقب الجمل، على انتباه القارئ، فاللّغة تعبر، والأسلوب يبرز”.
و قد انتهى (جاكبسون) في حديته عن الأسلوب إلى : “عدم إمكانية تعريف الأسلوب، خارج الخطاب اللّغوي كرسالة؛ أي كنص يقوم بوظائف إبلاغية، في الاتصال بالنّاس، وحمل المقاصد إليهم. فالرسالة تخلق الأسلوب، إلا أنّ الخطاب الأدبي، خطاب متميّز؛ بفعل أن الوظيفة الشّعرية هي التي تغلب فيه، فهو خطاب مركب في ذاته، ولذاته.”

  فالقصّة القصيرة جداً، لا يمكن أن تخرج عن إطار السّرديات، فهي كغيرها محكومة بتقنية السّرد، و ضرورة الحكي، و جمالية الأسلوب و دقته. ثلاثة أشياء لا مفرّ منها، و لا يمكن القفز عليها، بدواعي الحداثة ،أو ما بعدها، أو ادعاء الرّغبة في التّجريب و التّجديد.. و كتابة نصوص بلا هوية، و لا فنّية ،ولا تجنيس محدّد..و للغرابة، تنعتُ قصّة قصيرة جداً وبالقوّة، لا بعمل و إبداع، و اتقان و جودة، و فنّية و ابتكار. الشّيء الذي جعل هذا الفنّ الجميل الصّعب المتمنّع.. يُستباح من طرف أقلام بغير علم و لا معرفة.. إنّنا دخلنا ظلمات اللاّ منطق، منذ كسرنا قواعد الشّعر، و جعلنا النّثر العادي شعراً. و أصبح البعض يتبجّح بإبداع اللا إبداع صباح مساء، و جمهور الغوغاء يشجعه و يُجزل في الثّناء. لقد قلنا و نعيد القول إنّ أغلب ما كُتب باسم القصّة القصيرة جداً، لا صلة له بالقص، لا من قريب و لا من بعيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.