مَن كتب قصيدة “سكن اللّيل”؟
صقر أبو فخر / السّفير
تاريخ المقال: 29-08-2014 02:16 AM
فيما كنتُ مُكبًّا على كتابة مقالة مطولة بعنوان “قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة: أيهما أقدم؟”، شُغفت بالتجول في عدد من مواقع الشعراء، وكانت غايتي اكتشاف البدايات الأولى لحركة التجديد في الشعر العربي المعاصر، وهي البدايات التي تعود، على الراجح، إلى سنة 1911، أي إلى ما لا يقل عن ثلث قرن قبل ظهور نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبقية المبشَّرين بجنة الشعر العربي الجديد. وقد عثرتُ، في أثناء هذا التجوال، على شاعر مجهول يكاد لا يسمع باسمه أحد خارج العراق هو نعمان ثابت عبد اللطيف صاحب ديوان “شقائق النعمان”. أما المفاجأة فهي أن قصيدة “سكن الليل” التي اشتُهرت بأنها لجبران خليل جبران، موجودة في هذا الديوان المطبوع أول مرة في سنة 1938. والعجيب أن المجمع الثقافي في أبو ظبي أعاد نشر هذا الديوان في “الموسوعة الشعرية” وفيه، بالطبع، هذه القصيدة. ثم إن “أنطولوجيا الشعر العربي” التي أشرف عليها الدكتور عبد الستار عبد اللطيف الأسدي، أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة البصرة، والتي صدرت عن مؤسسة “آرت جيت للثقافة وحوار الحضارات” احتوت قصيدة “سكن الليل” (من بين 150 قصيدة عربية مترجمة إلى الإنكليزية)، ونُسبت إلى نعمان ثابت عبد اللطيف. ولمزيد من الحيرة فإن بعض الكتاب لاحظوا التطابق بين “سكن الليل” لجبران خليل جبران و”سكن الليل” تبع نعمان عبد اللطيف. وأمام هذه المفاجأة تساءلتُ: هل فعلها جبران خليل جبران كما فعلها إيليا أبو ماضي حين أغار على قصيدة للشاعر البدوي الأردني علي الرميثي، وانتهب بعض أبياتها ونشرها في قصيدة معروفة بعنوان “الطين”؟ يقول علي الرميثي:يا إخوتي ما أنا فحمة ما لها سناولا إنت فرقد يرهب الليل مسراهأما إيليا أبو ماضي فيقول:يا أخي لا تمل بوجهك عنيما أنا فحمة ولا أنت فرقدالشاعر والأغنيةانتشرت قصيدة “سكن الليل” بقوة منذ ظهورها في سنة 1967 بصوت فيروز وألحان محمد عبد الوهاب، مع أن القصيدة نفسها غنتها المطربة نازك، لكن بلحن مختلف لعله للملحن السوري خالد أبو النصر، أو للموسيقي اللبناني جورج فرح. أما النص الكامل لقصيدة “سكن الليل” كما ورد في ديوان “شقائق النعمان” فهو أطول بكثير من نص الأغنية، ما يشير، بصورة أولية، إلى أن محمد عبد الوهاب (في ما لو كانت القصيدة حقًا لنعمان عبد اللطيف) اختار 12 بيتًا فقط لتلحينها، ولم يختر القصيدة كلها (30 بيتًا)، وهو أمر عادي في مثل هذه الأمور. وخلافًا لاشتهار الأغنية وشيوعها، فإن الشاعر نعمان عبد اللطيف ظل مغمورًا إلى حد كبير. ولعل حياته القصيرة (32 سنة) كان لها شأن في إهالة الغبار على هذه الشاعرية؛ فهو ولد في بغداد سنة 1905، وتخرج طياراً حربياً في سنة 1927، ومات فوق صحراء السماوة في سنة 1937 جراء تحطم طائرته. ثم صدر ديوانه “شقائق النعمان” في سنة 1938، غداة وفاته، بعدما اعتنى بترتيب قصائده ووضع حواشيه الشاعر عبد الستار القرغولي والشاعر الملعون ابراهيم أدهم الزهاوي اللذان لم يتنبها إلى تطابق القصيدتين، فتركا ظلالًا على هذا الأمر.إذًا، مَن هو الكاتب الحقيقي لقصيدة “سكن الليل”؟ والجواب محيِّر قليلًا. وبحسب معرفتي، وهي بسيطة في أي حال، فإن قصيدة “سكن الليل” المنشورة في كتاب “البدائع والطرائف” لجبران خليل جبران (القاهرة 1923) كُتبت، على الأرجح، في سنة 1922. وفي تلك السنة كان الشاعر نعمان عبد اللطيف في السابعة عشرة، أي أنه شاعر غرٌّ من الصعب أن تتيح له إمكاناته الإبداعية واللغوية أن ينظم قصيدة رائقة ومتماسكة مثل “سكن الليل”، وذات تنغيم موسيقي لا يتقنه إلا صاحب مراس في ترويض الكلمات. وإذا افترضنا أن العمر ليس معيارًا للإبداع (رامبو على سبيل المثال)، إلا أن هذا الشاعر لم يُشتهر في بغداد العشرينيات البتة، بل كان منهمكًا، على ما يبدو، في حياته العسكرية، ومنصرفًا، في الوقت نفسه، إلى الترجمة والتأليف، فضلًا عن كتابة الشعر، كأنه كان يبدد أيامه في شؤون شتى؛ فقد خلّف ما لا يقل عن خمسة كتب غير ديوانه “شقائق النعمان”، وفي هذا الأمر بعض الغرابة. فالشاعر طيار حربي محترف، وكان يصرف بعض أوقاته في الترجمة عن الألمانية (له في هذا الحقل “جواسيس الجبهة”)، وفي الكتابة التاريخية (له في هذا الميدان “الجندية في الدولة العباسية” و”اليزيديون” و”الشطرنج”)، ويكتب الشعر أيضًا، ولا يتخلف عن مهماته العسكرية، ومنغمس في حياته الإنسانية بالتأكيد. فمن أين أتى بهذا الإبداع الشعري ولم يكتشفه، مع ذلك، أحد في تلك الحقبة؟لمن القصيدة؟لا أجازف في الاستنتاج إذا قلتُ إن نعمان عبد اللطيف قرأ قصيدة “سكن الليل” لجبران في كتاب “البدائع والطرائف” الذي نُشر في سنة 1923، فأعجبته، وانبرى إلى النظم على نهجها، أي أن قصيدة “سكن الليل” لنعمان عبد اللطيف هي محاكاة لقصيدة جبران الأصلية. لكن، من سوء حظ هذا الشاعر أن قصيدته لم تُشتهر على الإطلاق؛ فحتى في المحاكاة ظل هذا الشاعر مظلومًا، ولم ينل حظه من الاعتراف بشاعريته، ولا حتى نصيبًا في سجل الشعر العراقي المعاصر، خلافًا لقصيدة “نهج البردة”، على سبيل المثال، التي نظمها أحمد شوقي. فهذه القصيدة اشتُهرت أكثر بكثير من قصيدة “البردة” للبوصيري، ولا سيما بعد أن غنتها أم كلثوم بألحان رياض السنباطي. أما قصيدة “سكن الليل” العراقية التي نهجت نهج “سكن الليل” اللبنانية المهجرية فطواها هي وصاحبها النسيان، وانطوت بين صفحات ديوان “شقائق النعمان” غريبة ضائعة.قصارى القول إننا لا نعرف، على وجه الدقة، متى “كتب” نعمان ثابت عبد اللطيف قصيدة “سكن الليل” ومتى نشرها أول مرة. فإذا كانت هذه القصيدة قد نُشرت قبل سنة 1922، وهو أمر يقارب المحال، فيمكننا، والحال هذه، الاستنتاج أن جبران خليل جبران أغار على هذه القصيدة بالفعل كما فعل في بعض مقاطع قصيدة “المواكب”. أما إذا كان نعمان عبد اللطيف قد نشر “سكن الليل” بعد سنة 1923 (تاريخ نشر ديوان “البدائع والطرائف” لجبران)، وهو الراجح، فإن في الإمكان الركون إلى الاعتقاد، بلا تردد، أن نعمان عبد اللطيف كان يحاكي جبران وينظم على نهجه ومنواله في هذه القصيدة الجبرانية بلغتها وعباراتها ومفرداتها وأجوائها ونضارتها ورونقها.
المصدر : http://assafir.com/Article/368999
واضح جدا أن القصيدة لجبران فعندما نشر ديوان الشاعر ثابت كان جبران قد رحل / كما أن قصيدة ثابت ركيكة جدا وهو ما يؤكد انها محاكاة لقصيدة جبران
شكرا على مرورك ، و تعليقك ، و اهتمامك ..
في العراق المئات من المبدعين التائهين بين غبار النسيان وقصديّة الإهمال، فشابّ بعمر الثلاثين ينتج خمسة كتب، وديوان شعر، وهو طيّار حربي، لا يحق للمسؤولين عن الثقافة في البلد قديماً وحديثاً نسيانه وإهماله بهذا الشكل، لقد قرأتُ كتابه الجندية في الدولة العباسية، فوجدته مصدراً من مصادر الحياة السياسية والاجتماعي في حقبة من تاريخ العراق. لكن للأسف هذا ديدن الإبداع في العراق، فأعظم الأدباء والمبدعين يموتون منبوذين خلف الحدود.
هل هي قصيدة معاصرة ؟