الامازيغية وحصان طروادة
بقلم الفقيه السوسي أحمد بن محمد الشبي
أعتقد جازما أن من يسمون “مناضلي الامازيغية”هم أشخاص لا قضية لهم في حقيقة الأمر ،وإن كان يحلو لهم أن يصارعوا طواحين الهواء ، وأن يواصلوا “طول الوقت” مضغ الماء.
ذلك “يا أخي ” أن الامازيغية ليست مذهبا فكريا ، ولا نظرية ايديولوجية ولا تتضمن برنامجا معينا ، ولا رؤية ، ولا تدعي لنفسها يوما أنها تفكك مشاكل ،أو تقدم حلولا.
هي _في مجمل الأمر _ لغة متفرعة اللهجات ،ظل أهلها _طيلة الأحقاب والعصور إلى ساعة كتابة هذه السطور_بها يتحدثون ويتخاطبون ويتفاهمون وبها يصدحون في أغانيهم ، ويحكون الحكايات والاساطير والأمثال،ويتلقونها في المهد،ويتذوقون بها فنونهم ، ويعيشونها ثقافة موجودة، ويتفكرون في داخلها ، ويحملونها هوية قائمة ، وينغمسون في تفاصيلها كل لحظة ، لا أحد يستطيع أن يجادل في هذا المعطى.
وكان من حسن حظ الامازيغ أن ثقافتهم بقيت موجودة بفضل سرعة دخولهم الاسلام ، وانحيازهم إليه راضين ، وانضوائهم تحت رايته ووقوع بلدانهم التي تم فتحها تحت سلطانه وإمرته ذلك هو ما أنجى هذه اللغة من الانقراض والاندثار ، الذي تعرضت له لغات ولهجات شتى في الاوطان المحتلة ، والتي تم فيها إحلال لغة المحتل محل لغة السكان الأصليين ، وتعرضت الثقافات للإبادة والمحو والاضمحلال.
تشير كثير من التقارير العلمية إلى أن ثلاثة آلاف لغة ولهجة اندثرت وانقرضت بفعل الحروب الثقافية التي شنتها دول الاستعمار الغربي بالموازاة مع حروب النهب والقتل والاحتلال.
إن ما ينشئه الاسلام في النفوس من المناعة الذاتية ، وقوة الاعتزاز بالشخصية ، والاحساس بالانتماء، والاستعصاء على الذوبان ، والتوجس من الكفار ومكرهم وكيدهم هو ما جعل الأمازيغ يحافظون على تراثهم وثقافتهم ولغتهم في ظل الاسلام الذي يعرفون _يقينا _أنه لم يات ليطمس وجودهم ، أو يستأصل كيانهم ، أو يبيد عرقا أو جنسا .بل جاء إلى الناس يعرض عليهم التوحيد والتحرير وينشر بينهم قيم العدل والإخاء والرحمة والمساواة.
لم تكن لدى الدين أدنى رغبة في تذويب الهوية ، والتهام اللغات ، وتفتيت ما هو قائم ، بل كان منذ البدء _ والقرآن المكي يتنزل _ يشير إلى أن من آيات الله المبسوطة في الوجود للتأمل والاعتبار ، أن خلق الخلق مختلفي الألوان والألسن والسمات والشيات .قال تعالى : ومن آيته خلق السموات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين”سورة الروم.
فكان جليا أن الاسلام لا إشكال لديه أن تكون فارسيا أو كرديا أو أمازيغيا أو روميا ما دمت مسلما لله طائعا له .مقرا بوجوده ووحدانيته ، خاضعا لأمره ونهيه ساعيا في مرضاته وتقاه.
ذلك هو الميزان الوحيد في التقييم والافضلية والسبق ، ملغيا ما سواه من الاعتبارات التي يمكن أن تعيد العصبيات المنتنة ،ودعوى الجاهلية الرعناء.
المهم أن الامازيغية كانت في وضع آمن ،
تتمتع بوجودها متآخية مع اللغة العربية –لغة القرآن-لكن في لحظة ما أثناء
الاستعمار ، أو في أعقابه بقليل ، نشأ وعي لدى فئة من المثقفين الامازيغ ،
بضرورة الاهتمام بالثقافة الأمازيغية .دفعهم إلى ذلك احتكاكهم بالثقافة
الغربية ، مضافا إليه تأثير واضح وتشجيع من بعض الباحثن الفرنسيين في
اللهجات وأصول القبائل ، فاتجه هؤلاء _ فعلا_ إلى البحث على ذلك المنوال
،ونشطوا في هذا المجال خاصة مع تنامي الاحساس لديهم بأن ثقافتهم وتاريخهم
مغموط ومقبور ومزدرى
كان على رأس هؤلاء باحث مهم ومتمكن وحصيف هو
الاستاذ محمد شفيق الذي انكب _ بدأب وصبر _ على البحث في هذه الثقافة ، حتى
أصدر معجمه الشهير ، وفتح فتوحا مبينة في هذا الحقل ،وحاول أن يضع لبنة في
التأريخ للامازيغ وثقافتهم بكتابه الهَام”لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من
تاريخ الامازيغيين”.
ثم مضى البحث على هذا المنهج اللاحب ،مستَدا
مشتَدا ، تعمقا في الدلالات وغوصا في المعاجم ، ومقارنات واستنباطات
واستدراكات ،في بحث علمي رصين ومحايد ورشيد
حمدنا فيه أنه سيغني هذه
اللغة ، ويثريها، ويسجل تاريخها ، ويلم شعتها وتفاريقها ، ويمنحها وجودا
كتابيا، وحضورا ثقافيا _ وإن شردت بسطوة العلمانيين أخيرا باختيارها حروف
تيفناغ في الكتابة_ تزداد به إحدى مكونات المغرب المتنوعة سعة وغنى وعمقا
وثراء.ورغم ذلك لا أخفيك _ أيها القارىء الكريم _ أنني في البدء توجست خيفة
من تلك المساعي ، وازدادت الريبة من حدة الحماس ، وغلواء التعصب ، الذي
يشرح بأكثر مما هو حاصل ، وتوقعت أن يكون وراء ذلك ما وراءه كما قال العرب
قديما :”إن وراء الأكمة ماوراءها”خاصة وأن ما يدافعون عنه إلى حد التشنج هو
موجود وقائم _كما بسطنا في أول المقال _ بل ظلت الامازيغية موجودة قرونا
قبل أن يوجدوا_ لغة شفوية متوَارثة _ لم تمت ولم تندثر ، ولم تكن في مخاصمة
ولا مشاكسة مع أحد ، ولا تتزاحم في صدور أهلها مع غيرها ، بل تنسجم
وتتواءم حتى وجدنا أضخم شاعر لدى الامازيغ _وهو سيدي حمو _ هو فقيه أيضا
.فلم تتفتت هويته ، ولم يتشظ كيانه بهذين المكونين الئَريين.ووجدنا فقهاء
الامازيغ اجتهدوا في “تمزيغ”كثير من كتب الدين ككتب الفقه والسيرة لتقريبها
لعوام المسلمين، بل إن الامازيغ _ عموما _ كانت لهم أياد بيضاء في خدمة
هذا الدين ، وإثراء حضارته ، وتعزيز بنيانه .وقد صرح الاستاذ شفيق بذلك
فقال: “ليس المقصود هنا الإحاطة بتاريخ البربر بعد دخولهم في الاسلام ، ولا
الاحاطة بإسهاماتهم في بلورة الثقافة الاسلامية ، لأن ثلاثة عشر قرنا من
التفاني في خدمة الدين الحنيف فكريا وأدبيا لا يمكن أن تقتضب في سطور
وفقرات.ص :82
وهم رغم ذلك لا أحد يستطيع أن يزعم أنهم فقدوا خصوصتهم .أو ذابت هويتهم ، بل إن الاستاذ المذكور لاحظ أنهم ألبسوا الحضارة الاسلامية سماتهم ، وصبغوها بتفكيرهم، واتخدت بهم بعدا آخر ، وطمعا مختلفا .فقال :”وأسهموا {أي الامازيغ} بقسط وافر في بلورة العلوم الاسلامية ، لأنهم كانوا كثيري الحرص على صيانة العقيدة واستنباط ما في الاصول من قيم روحية ، وأحكام شرعية “ص :85
ثم راح يحلل أشكال تأثرهم في تلك الحضارة ، وخصوصيتهم فيما أنتجوا داخله
كان الحال في ماضي الأمازيغية المشرق على ما رأيت ، وكان البحث في ثقافتها بهذا الهدوء والعمق والانصاف الذي تجلى لك فيما نقلته عن الاستاذ شفيق
لكن فجأة غلب هذا الشيخ الوقور عما هو فيه ، وحيل بينه وبينما يبني ، وتصدر المشهد الامازيغي شباب يجيدون الجدل الفارغ وإثارة الضجيج والعجيج بدون جدوى ، وانقضوا على هذه القضية ، وحولوا مسارها إلى متاهات العلمانية ، والانسلاخ عن أصولها الأولى ، ومحاولة بتر جذورها وأنساغها التي تتروى من صفاء العقيدة ومنبع الوحي ، كي يزرعها في مواطن الجفاف ، ومرابع الظلمات .نعم صدقت ظنوننا حين رأينا أن هؤلاء تلقفوا _أخيرا _ القضية الامازيغية ، ونفخوا فيها ما طاب لهم النفخ ، وسحبوها من ورائهم كرهينة ، ليخوضوا بها أوحال مهمات قذرة ،ويشنوا تحت غطائها حروبا مفتعلة ، ويشحذوا بأسنانها ، وتحت عباءتها سلاحا مسموما يوجهونه إلى دين الامة وعقيدتها وتاريخها وحضارتها.
يقود هذه الجوقة النشاز أحمد عصيد الذي أعلن أكثر من مرة انحيازه المطلق إلى العلمانية ، ووجه نقده للحدود في الاسلام ، وسخر من الشريعة ومن الخطباء والفقهاء ، وتطاول على كثير من الاحكام الشرعية كالحجاب وغيره .وقال في إحدى عوراته بالنص :”إن موضوع الحدود بجانب شرعيات الرق والعبودية وما ملكت أيمانكم ، وقانون توزيع الغنيمة بعد الحرب ، ونظام القوامة الحريمي وكثير من الاحكام الاخرى تدخل ضمن ” التراث الميت ” الذي تفككت البنيات الاجتماعية الحاضنة له : وكذا دهنية الاشتغال به.
هكذا يطلق هذا العلماني الوقح عنانه اللغوي كي يعتدي على مضامين آيات محكمة في القرآن العظيم .بل إنه في الاونة الاخيرة لم تعد لديه مهمة إلا النبش عن المطاعن ، وقطع السياقات عن اللواحق ، والمكر اللغوي والخلط بين النص والتطبيق ،ليتسنى له ضرب محكمات الدين وتقويض هيبته ، والتبشير بدينه العلماني الجديد.
لا أحب أن أسرد مخازي الرجل ، وفضائحه الفكرية ، وتورطه فما لا يحسن ، وضألة طرحه، وتهافت حجته هو أقل من ذكر من ذلك بكثير.
لكن يجب أن أقول إن بما يكتب أمثال هذا العلماني سقط القناع عن وجوههم ، وظهروا على حقيقة أمرهم .وانكشف ما كانوا يخبؤون .وأصبحت الامازيغية على أيديهم حصان طروادة في ديارنا .انفجرت بأفواج من الفئران ستثقب هذه السفينة ، وتنتهي بالجميع إلى الغرق العظيم “والعياذ بالله.