قوس المقال
ـــــــــــــــــ
في الحاجة إلى الفلسفة
د. فريد أمعضشـو*
إن سؤال الحاجة إلى الفلسفة ليس وليد اليوم، وليس طرْحُه أمرًا جانبيًّا، بل هو سؤال جوهري متجدد؛ فقد أثير في الغرب، بصورة واضحة، منذ القرن التاسع عشر على الأقل، وأُسيل منذئذٍ حبْرٌ كثير في الإجابة عنه، وتناوُل مختلِف قضاياه وإشكالاته، قبل أن يمتد الاهتمام به إلى بِيئات ثقافية أخرى، في شتى الأنحاء، بما فيها، طبعًا، العالم العربي والإسلامي. وقد تزايدت العناية بفعل التفلْسُف، عالميًّا، في العقود الأخيرة؛ ما دعا منظمة اليونسكو إلى تخصيص “يوم عالمي للفلسفة”، منذ أزيد من رُبع قرن، يُحتفل به في الخميس الثالث من كل شهر نونبر سنويّصا؛ وذلك بالنظر إلى الأدوار الطلائعية التي تضطلع بها الفلسفة في تنوير العقول، وبناء الإنسان، وتعزيز التفكير المنطقي والإبداعي والنقدي لديه، وإشاعة قيم الحرية والتنوير والحداثة والديمقراطية والعدالة والتنمية ونحوها في أوساط المجتمعات، علاوة على التصدي سِلْميّا لظواهر العنف والتطرف والتزمت والاستبداد…
وإذا ألقينا نظرة عجلى على تاريخ الفلسفة، فإننا نستطيع الخروج باستخلاص أساس مفادُه أن هذا التاريخ لم يستقر على وتيرة واحدة، ولم يكن تطور الفعل الفلسفي خلاله سائرًا في المنحى التصاعدي المفترض اطّرادًا، بل كان تاريخا متذبذبًا بالأحرى؛ عرف فترات توهّج فلسفية، وفترات أخرى انتكست وانحدرت فيها الفلسفة؛ بسبب عدد من الظروف الواقعية، والعوامل الموضوعية الضاغطة. ففي عصر عمالقة الفلسفة الإغريقية، ازدهر التفلسف، ونشطت المناظرات والمناقشات الفكرية في مختلف المواضيع، واختلفت الآراء والطروحات بصددها، بما فيها، طبعًا، تحديد ماهية الفلسفة في حد ذاتها، وتبيان محور اشتغالها والغايةِ منها؛ إذ رأى أرسطو أن الفلسفة إنما هي “علم الوجود من حيث هو وجود”، وأنها مَعْنية، أساسًا، بالبحث في المبادئ والعلل الأولى لأشياء هذا الوجود، وأكّد أفلاطون، قبله، أن مَهمة الفيلسوف تتجلى في بحث الكليات والمُطْلَقات الثاوية خلفَ مظاهر الوجود. وارتبطت الفلسفة، في بداياتها، بالحكمة، حتى قالوا إن جوهر الفلسفة، كما يؤيّد ذلك جانبها الإيتيمولوجي أيضًا، يكمن في “حبّ الحكمة”. وقسّمت الفلسفة إلى نظرية وعملية؛ فأما الأولى فذات أغراض غير نفعية، وتتفرع إلى إلهيات وطبيعيات ورياضيات، وأما الثانية فتدخل تحتها عدة علوم ومجالات؛ من مثل الأخلاق وسياسة المدينة. وشكّلت الفلسفة مَحْضَنًا لجميع العلوم إلى حدود القرن التاسع عشر؛ حيث بدأت بوادر الاستقلال بين الجانبين في الظهور، إلا أنه لم يكن انفصالًا نهائيًّا عن الأصل، بل ظلت الوشائج قائمة بينهما، وإنْ كانت تتخذ، في الغالب، طابع الخفاء لا التجلي.
وخلال مسيرها التاريخي، اصطدمت الفلسفة بالدين في كثير من الأحيان؛ لذا نشبت صراعات بينهما، لم تسلم من عنف وإقصاء مقصود، على أن الكِفة كانت تَرْجَح، غالبًا، لصالح الدين وبنياته ونُظمه. فقد مارست الكنيسة الأوربية، مثلًا، خلال الحقبة القُرُوسطية، سلطة مطلقة على الكل، في ظل مجتمعات إقطاعية مستبِدّة، وفرضت تصوراتها ومعتقداتها، وقمعت بشدة كل منْ سوّلت له نفسه مخالفتها أو التشكيك في أدائها؛ وبذلك عانت الفلسفة والفلاسفة الأمَرَّيْن في ظل سيادة الفكر الكنسي الأحادي، وكان لا بد من انتظار قرون حتى تبْزُغ شمس التحرر على أوربا، التي كانت تعيش ظلامًا دامسًا، انطلاقًا من الثورة الفرنسية وعصر الأنوار؛ حيث ظهر فلاسفة ومفكرون أرْسَوْا لبنات نظام حياتي جديد، مؤسّس على قيم العدالة والمساواة والحرية والنماء وحقوق الإنسان، ودَعَوْا إلى ضبط سلطة رجال الدين، ورسم حدودها بوضوح، بل إن نضالاتهم أفضت إلى إدخال الفلسفة ضمن برامج التربية والتكوين في أوربا ما بعد العصر الفيودالي المظلم؛ ففي فرنسا، بوصفها في طليعة قادة هذا التحول الحاسم في التاريخ الأوربي الحديث، أصدر نابليون بونابرت، سنة 1802، قانونًا يقضي بإدراج الفلسفة، بصفة أساسية، في المنظومة التعليمية الفرنسية، ولاسيما في المرحلة الثانوية.
وقد حدث الاصطدام نفسُه في سياقنا العربي الإسلامي، الذي احتك، بقوةٍ، بالتفكير الفلسفي منذ عهد الخليفة العباسي المأمون؛ باني بيت الحكمة ببغداد، الذي شجع الانفتاح على الثقافة اليونانية، وترجمة علومها وفلسفتها ومنطِقها. ولعل أبرز تجسيدٍ لهذا الصراع ما حصل بين أبي حامد الغزالي وابن رشد؛ فالأول عارض الفلسفة، ورمى المشتغِلين بها بالتهافُت، وعَدَّ نمطهم التفكيري مخالفًا للشرع. وتبنى هذا الموقف نفسَه غيرُ الغزالي؛ كابن الصلاح الشهرزوري، في القرن الهجري السابع، الذي أفتى بأنّ “الفلسفة أسّ السَّفَه والانحلال”، وبأنّ “المنطق مدخل الشرّ”. على حين انتصر لها الثاني، الذي عُرف عنه الإعجاب بالمنطق والفلسفة الأرسطية، والعمل على تعريبها وشرحها ونشرها، ودافع عن جدوى الممارسة الفلسفية، وعدّها طريقًا مُوصِلة إلى معرفة مقاصد الشريعة. ووُجِد فريق ثالث من أسلافنا اتخذ موقفا توفيقيا من إشكالية النقل والعقل، الشريعة والحكمة؛ كما هو الأمر عند إخوان الصفا.
ولئن كان هذا الصراع قد حُسم، إلى حد بعيد، في الغرب؛ برَسْم حدود واضحة بينهما، تضْمَن لهما أن يُوجَدا معًا، من غير إقصاء أو تبخيس أيٍّ منهما، إلا أننا، في ثقافتنا وواقعنا، يبدو الأمر خلافَ ذلك؛ فالتصادم والتنافر بين الدين والفلسفة عندنا لم يختفيا بعْدُ؛ فهذا زعيمُ جماعة إسلامية معروفة بتونس يرفض بشدة تدريس الفلسفة في التعليم الثانوي، ويحذّر من عواقبه الوخيمة على الطلاب، ويدعو إلى عدم تضمين برامج التعليم بالمدارس الثانوية نصوصًا لفلاسفة الإسلام القدامى؛ من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، ولفلاسفة الغرب المُحْدثين؛ كسارتر وفرويد وماركس، مقترِحًا تعويضَها باختيار نصوص بديلة لعلماء ومُصْلِحين ظهروا انطلاقًا من عصر النهضة بمصر والمشرق العربي؛ مثل حسن البنا وسيد قطب. ولا يزال يُنظر إلى الفلسفة بكثير من الريبة والحذر في عدد من بلدان الخليج إلى يومنا هذا، إلى درجة وصْفها، أحيانًا، بأنها عامل زعزعة وتدمير للفرد والمجتمع معًا، وبأنها تُشيع الفوضى والتشكيك في الثوابت والمسلّمات، وبأنها تحرّض على الثورة والعصيان. ونُشرت من حولها تمثلات ومغالطات؛ من قبيل أنها تقترن بالزندقة والهرطقة؛ فمِمّا قيل، في هذا الإطار، “مَن تَمَنْطق تَزَنْدَق”!… وصدرت جملة فتاوى- مدعومة، أحيانًا، بقرارات رسمية- تحْظُر الفلسفة، وتمنع تدريسها في المدارس الثانوية؛ لأسباب كثيرة ذكرنا بعضها قبْلُ. وحتى إذا سَمحت بها، على نطاق ضيق، في الأقسام الأدبية بالجامعة، فإنها تقيّدها بشروط، من قبيل أن يتولى تدريسها أشخاصٌ بمُواصفات خاصة، تجعلهم قادرين على تمييز الصالح من الطالح، والحق من الباطل، والمفيد من الضارّ، فيها، وأن يُستهدف بها، كذلك، طلاب ذوو “مناعة” كافية، وشخصيات مستقلة واعية تحفظهم من التأثر بكثير من النظريات والطروحات، على أنْ لا يَشْغَلهم ذلك، طبعًا، عمّا هو أوجب شرعًا…
والواقع أن الحاجة صارت أمسَّ، اليومَ، إلى الدرس الفلسفي، وإلى تعميم تدريسه في الأنظمة التربوية كلها؛ لعدة اعتبارات وظروف مستجِدّة، ولِما يروم تحقيقه من غايات ومقاصد نبيلة. بل إن المفكر الفرنسي جاك دِرّيدا (J. Derrida) عدّ ذلك “حقًّا كونيًّا”، لا مناص من تمكين الإنسان منه، وتوفير شروط استفادته منه استفادةً حَقّة. يقول: “نجد الحق في التعاليم والثقافة والتربية… ونتساءل أوّلًا عمّا إذا كانت تتضمن الحق في الفلسفة كحقّ كوني يتجاوز الاختلافات الوطنية والاجتماعية، وبأيّ معنى يتم ذلك؟ وبصيغة أخرى، عمّا إذا كانت الفلسفة مادة تخصّصية من بين موادّ أخرى، لها الحقوق نفسُها والحدود داخل ما نسميه بشكل ملتبِس (الثقافة). وثانيًا إذا كان بإمكان الفكر (الفلسفي وغير الفلسفي)، الذي يمنح لنفسه أو يطالب بالحق في مساءلة سلطة وأسُس الخطاب القانوني وخطاب حقوق الإنسان، أن يُدرس، وأن يكون في المتناوَل باسم (الحق الكوني)”. وسبق لدريدا نفسِه أنْ حذر من مغبّة إهمال تدريس الفلسفة، ومن تضييق الخناق عليها، نظرًا لانعكاساته الوخيمة على المجتمع والأفراد؛ فقد أكّد أن “تدمير قسم الفلسفة… سيُفضي إلى إبعاد جمهور التلاميذ عن ممارسة النقد الفلسفي والسياسي، وكذلك النقد التاريخي، ما دام التاريخ أيضًا هو الشريك الذي ما يزال مقترِنا بالفلسفة”.
وعلى الصعيد العربي، تشتد الحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى تعميم تدريس الفلسفة في الثانويات والجامعات، بعدما برزت، على الساحة، مظاهرُ غير مسبوقةٍ من العنف والتطرف والإرهاب والرِّجعية، وبعدما أثبتت نتائج عمليات تقويمية نقْصَ مُخْرَجات النظام التعليمي العربي على مستوى مهارات التفكير العقلي، والنقد البناء، والقدرة على المساءلة والسجال والإقناع… فمن شأن تعميم الدرس الفلسفي أن يحقق أهدافًا متعددة قِيميًّا ومهاريًّا ومعرفيًّا، وأن يكوّن عقولًا تنبذ العنف والتسلط والخنوع، وتؤمن بالاختلاف والحرية والإبداع. تقول الباحثة اللبنانية ريتا فرج، في مقالٍ لها، قيّمٍ رغم وَجازته، بعنوان “لماذا علينا تدريس الفلسفة؟” (2018)، إنّ “تحفيز الدرس الفلسفي في الثانويات والجامعات العربية عمومًا… قضية مُلحّة يفرضها شرطان: بناءُ العقول الناقدة والواعية والمنفتحة على العالم وتعدد الأفكار والآراء، تحديدا في سنّ المراهقة؛ حيث تكثر الأسئلة حول الإنسان والدين والله والوجود. وتفعيلُ تدريس الفلسفة من أجل محاربة التطرف والعنف الديني والأصولية والإرهاب، وهي أذرعٌ تنمو في البيئات الاجتماعية التي تستبطِن الذهنيات القطعية واليقينية والإطلاقية…”.
ولا شك في أن تدريس الفلسفة بطريقة ناجعة ميسِّرة لتحقيق كفايات الدرس الفلسفي وأهدافه في الوطن العربي يتطلب تبني نماذج بيداغوجية جديدة في هذا الإطار، وطرق تدريس مناسبة وفعالة، تستفيد من نتائج تطور الدرس الديدكتيكي عمومًا، في مجالات تخطيط التعلمات وتدبيرها وتقويمها ودعهما، وتُعين المتعلمين على تملك مهارات الأشْكَلة والمَفْهَمة والمُحاجَجة وغيرها ممّا يراهن عليه تدريس الفلسفة. علاوة على توفير أنسب الشروط للقيام بهذا الفعل التربوي وَفق المقاربات والبيداغوجيات الحديثة. إننا، باختصار، أحْوَجُ إلى أسلوب جديد لتقديم الدرس الفلسفي لتلاميذنا وطُلابنا؛ كما يؤكد المهتمون بهذا المجال، ومنهم الباحث المغربي عِز الدين الخطابي الذي ذكر، في كتابه “مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب” (2002)، أن “الإقرار بالطابع التساؤلي والنقدي للفلسفة، واعتبار الفكر الفلسفي كفكر قائم على الإنصات والحوار مع الآخر، ومع الذات أيضًا، يسمحان لنا بالحديث عن بيداغوجيا المغايرة والاختلاف Pédagogie de la différence، تدافع عن الفلسفة وتدريسها من موقع الانفتاح والإبداع والنقد، وليس من موقع الخضوع لضرورات مؤسساتية أو لـ”دوغمائية بيداغوجية”. وإذا كان هناك من سبيلٍ للحديث عن ضرورة بيداغوجية أو ديداكتيكية بالنسبة لمادة الفلسفة، فيجب أن نأخذ بالحُسبان كوْن هذه الأخيرة هي أساسًا فكر المساءلة باستمرار.. إنها بمثابة فضاء حواري، يسمح بإبراز الاختلافات والتعارضات، ويساهم- بالتالي- في الكشف تدريجيًّا عن القضايا المُضْمَرة والمسكوت عنها؛ مثل قضايا المؤسسة، وحرية التفكير، والحق في النقد…”.
والواقع أنّ التحمس لتدريس الفلسفة عربيا، وتعميمِه في برامج الثانويات وكليات الآداب والعلوم الإنسانية، لم يصل إلى المستوى المنشود بعد، رسميًّا وشعبيا؛ كما تشي بذلك عدة مؤشرات وأبحاث واستطلاعات، منها، مثلًا، ذلك العمل الاستفتائي الذي بادر به، مؤخرًا، مركز “المِسْبار للدراسات والبحوث” بلبنان، حين طرح، على موقعه الإلكتروني، سؤالًا لمعرفة آراء الشارع العربي في موضوع مقالنا هذا؛ فجاءت النتائج غيرَ مُطَمْئنة تمامًا؛ لأنه، من بين حوالي سبعمائة شخص متجاوِب مع سؤال الاستفتاء، أجابت نسبة (18%) برفضها تدريس الفلسفة في مدارس الوطن العربي وجامعاته، على حين تحفّظت نسبةٌ أكبر من ذلك (34,2%)؛ بأنْ أيّدت ولكنْ بشروط. وعلى كلّ حال، فمثل هذه النتائج تحتاج إلى تحليل وتفسير وتأويل على نحو معمق يستحضر كل الظروف والمؤثرات والخلفيات. والذي أودّ ختم مقالتي هذه به هو أننا جميعًا مُطالَبون بالعمل، كلّ من موقعه، على إحلال الدرس الفلسفي المكانةَ التي تليق به في منظومتنا التربوية، وعلى تحقيق أهدافه الراقية ومقاصده السامية، بعيدًا عن أي تشدُّقاتٍ واتهامات مجّانية، وتكفيرٍ للمشتغِلين بالفلسفة بحثًا وإنتاجًا وتدريسًا.. بل يلزم الاجتهاد للإقناع، بشتى الوسائل، بأن الفلسفة أمْسَت، في أيامنا هذه، بشكل أخصّ، ضرورة أكثرَ إلحاحًا…
ـــــــــــــــــــــــــــ
كاتب من المغرب.
farid.amaadachou@yahoo.fr