سبع قصص قصيرة جدا من سبع مجاميع قصصية، كل قصة من مجموعة بدءا من “الرقص تحت المطر” إلى “تكلم كي لا أموت”
القاص حسن البقالي
1- أنا فريدريش ماور
أريد…
فتح الباب فبادره القادم من بعيد:
– هل أنت المدعو فريدريش ماور..ناشر ذاك الإعلان على النت؟ جلسا تحت إضاءة خافتة..
ولم يكونا في حاجة إلى كلام. بعد فترة تشبع كافية..سيسلم القادم من بعيد زمامه لمضيفه..يترك له أن يحكم وثاقه, وينتر نسيرة لحم من فخذه الحي..يشويها أمام عينيه الفضوليتين, ويشرع في قضمها بلذة غير مسبوقة..يقطع الفخذ الثانية, ثم الذراعين..وقبل إسلام الروح, يرنو القادم من بعيد إلى مشرّحه الجميل تعبيرا عن ود وامتنان عميقين..
” أنا فريدريش ماور..أريد أن آكل شخصا..
وعلى من يهمه الأمر الاتصال بالرقم..”
وإذا كانت مدرسة التنداي, تلك الفرقة البوذية اليابانية تعتبر أن “الواقع واحد غير أنه يمكن معرفة هذا الواحد بثلاثة آلاف من تجلياته” فلربما اعتبر الجميع ذلك الإعلان مجرد دعابة, باستثناء ذلك القادم من بعيد الذي رأى فيه واحدا من الثلاثة آلاف تجلٍّ للحب.
2- افتراضي
كان جان بودريار في صالة السينما حين أحس بكف تلامس كتفه العارية.. ودون أن يلتفت، حدس أنها كف المرأة التي نزحت من هناك. للحظة، افترت شفتاه عن بسمة لم يكن بإمكان الظلمة أن تكشف عنها لأي كان.. ثم حاول أن يشغل نفسه بتجميع أحداث الشريط المعروض لحواسه:
قرية أمريكية تقوم بين أهاليها علاقات محض افتراضية، فلا عمليات التسوق ولا حفلات أعياد الميلاد..لا مدارس أو حانات أو حدائق أو مباريات الكرة..لا شيء من كل ذلك يتمتع بعد، بالبعد الواقعي.. بل أزرار ومفاتيح وكاميرات فرضت الافتراضي كواقع وحيد ونهائي..هكذا آل الجسد إلى الضمور، وصار استمرار النسل فعلا تقنيا أساسه الاستنساخ.
كان بودريار يتابع أحداث الشريط بشغف زائد، حين أحس بكف المرأة تلامس كتفه، توقظ فيه هواجس كان يخالها بعيدة الغور.. أدرك بما لا يترك مجالا للشك أنه – هو جان بودريار- مجرد نتاج آخر للعالم الافتراضي الذي يفتك بظلمة الصالة الآن..استسلم كليا لمشيئة المرأة، وهي تطوق جسده بذراعها الآسرة، فيما هي تسير به جهة الشاشة..تماما كما تعود أم بابنها الضال إلى بيت العائلة.
3- أحلام
كان أولَ ما رأيت حلم حكته امرأة بدوية لابن سيرين..
بدا خاطفا وملفوفا في الغموض كنبوءة
بعد ذلك صارت الأحلام أكثر وضوحا واكتمالا:
رأيت الحلم 14 من أحلام أنطونيو تابوكي العشرين، حيث ينتهي تشيخوف فوق السحاب، بعربة مجنحة وحوذي لا يطلب سوى أن ينصت أحد إلى حكايته..
رأيته تماما كما يفترض أن تشيخوف رآه، قبل أن يحوله تابوكي إلى مادة حكائية.. ثم رأيت أول حلم في تاريخ البشرية ذاك الذي رآه آدم في الزمن الفردوسي الذي سبق مباشرة خلق حواء، ومهد له. في النهاية.. تجاوزت إعادة إنتاج أحلام السابقين، إلى تخيل الأحلام التي لم تحلم بعد..هكذا عشت ذات ليلة مضطربة حلما سيراه شامان إفريقي يزعم أنه يسقط المطر، ولن يهنأ بعده أبدا.. الأكيد أن هذا الانتهاك المتتالي لشرانق حلم الآخرين لم يكن ليتأتى، دون التحول الذي مس شكلي الفيزيقي:
لقد بدأ رأسي يكبر طبقا لمتوالية هندسية.. هو الآن ملقى في الغرفة بحجمه المعادل لحجم شاحنة.. بينما باقي الجسد يتدلى منه كثؤلول تافه وأنا أحلم أحلم ..
4- هويات
فتحت عيني
كان السقف يحدق بي
بعد برهة قال: ” لو كان لي قدمان مثلك أيها الآدمي البئيس، لقطعت المسافات، زرت السقوف الأخرى، تبادلنا الأنخاب وعناوين الفايسبوك والنكت البذيئة”
السقف الأحمق لا يعرف أنه متى غادر مكانه، يكف عن أن يصير سقفا.. يصير بلا هوية، ولن يقبل به أحد تماما، مثلما حصل معي حين غادرت هويتي الأصلية، وصرت آدميا.
5- احتمالات
ثمة فلاح فقير، وسبعة أبناء، وغابة.
يمكن بالطبع أن نركن إلى مسارات الحكاية الشعبية، فنجعل الفلاح يأخذ أبناءه إلى الغابة، كي يتركهم هناك عرضة لمزاج الطبيعة.
أو نحتكم لوقائع الحياة اليومية، ونجعل الأبناء يأخذون أباهم إلى الغابة كي يتخلصوا من شيء أسمه “المعاينة اليومية لمظاهر الوهن الذي يلازم الشيخوخة”
كما يمكن أن نأخذ بعين الاعتبار جوهر الطبيعة البشرية، ونتوقع بأن الغابة ستزحف إن آجلا أو عاجلا على الفلاح وأبنائه والقرية ككل.. الغابة التي بداخل كل منا.
6- الثعلب
في ذلك الفضاء الملتبس، المضرج بدم العتمات، لاح الجسد الحيواني البهيج: ثعلب أبيض مضئ مثل قلادة متلألئة. جعل يرنو إلى الأفق في ود، ويحرك إحدى قائمتيه الأماميتين برفق زائد، كما لو أنه يربت على ظهر العالم.
لست أدري كيف داخلني ذاك اليقين – يقين جازم وفوري- بأن الثعلب الجميل إنما هو ابنتي كوثر.
في الصباح ،قبل أن أحدثها عن الحلم، بادرتني قائلة: – هل تدري يا أبي؟ رأيت ليلة أمس أنني ليل.. طويل وبهيم كليل النابغة الذبياني، قبل أن يلوح في الأفق ثعلب أبيض جميل ومضئ كقلادة متلألئة. كان يرنو إلي في ود غامر، ويحرك إحدى قائمتيه الأماميتين برفق، يمسح بها على ظهري.
وكنت على يقين راسخ بأن الثعلب هو أنت، أبي.
7- سحب بيضاء لا تبشر بخير
كلما أمعن النظر في السحب البيضاء رأى صورة قبر كان ذلك يثير حنق العائلة والمحيط بشكل عام. يرون في السحب أشياء وصورا وخيالات شتى، بينما القبر صورته الوحيدة .
الآن، وهو يناهز التسعين سنة، أفل نجم الآخرين جميعا، الأعمام والأخوال والإخوان وأبناء العم والأصدقاء والزملاء القدامى والأبناء أيضا.. سقطوا تباعا. أنا الوحيد الذي ما زلت على قيد الحياة وهو ما زال يرى قبرا كلما رفع عينيه إلى السماء
– العمى!