السرد و الخيال

السَّـــرد و الخيال

كتب الأستاذ الصديق عبد المجيد أحمد محمود في صفحته سؤالا مركبا حول الخيال في السرد فكان كالتالي : ( هل الخيال أساس من أساسيات السرد؟ أم هو عنصر يزيد جمال السرد؟ و ما هي الحدود التي يشتغل ضمنها عنصر الخيال في السرد؟)

إنّ الفن عمومًا ـ و ليس السرد وحده ـ لصيق بالخيال ، بل الخيال يشكّل إكسير حياة الفن. يقول الشاعر بودلير: ” إنَّ الصّفة الأساسية التي يتّصف بها الفنان هي الخيال ” (*)

و قد عرّف قاموس “أكسفورد” للّغة الإنجليزية مصطلح التّخيل : “هو حلم يقظة ينبعث نتيجة للرغبات أو الاتجاهات الشّعورية أو اللاشعورية، أنّها العملية أو الملكة الخاصّة بتكوين التَّمثيلات العقلية للأشياء التي تكون موجودة فعلا”.

إذا الخيال من الملكات الأساسية التي لا مناص منها. و ذاك ما تشهد به منذ القدم أعمال كلّ من “هوميروس Homere) ) و دانتي (Dante ) و ملتن ( Milton) و كولردجColeridge) .” بل أصبح الخيال مادة دسمة لتّأمّلات الفلاسفة فمنذ القديم يقول أرسطو : ” (*) الخيال حركة متولّدة عن الإحساس بالفعل ” ولما كان البصر هو حاسّة الإنسان الرّئيسة التي يستمدّ منها الخيال مادته لهذا اشتقّ أرسطو منها لفظ (فنطاسيا) و يقول كانت:” قلّما وعى النّاسُ قدر الخيال وخطره، و يقول: إنّ ملكة الخيال ضرورة هامّة وأساسية في جميع عمليات المعرفة “(*) و قال المفكر “جون ديوى”: “الخيال أكثرُ من أي قدرة أخرى، قادر على اختراق حالة القصور الذّاتي التي تميّز العادات السّلوكية” (*)

وقد تطور مفهم الخيال كملكة عبر العصور، و قد تبنته جميع المذاهب الأدبية والفنّية عبر تطورها و تنوّعها و اختلافها ..و وسمته بانطباعاتها الايديولوجية والاجتماعية و النّفسية..

فالإبداع عند الكلاسيكيين يتأتى من العقل والتفكير والذاكرة و العاطفة، و ذاك لا يخلو من خيال. بينما الرومانتكيون اهتموا بأبعاد الرّوح و الميتافزيقا و تمثّلها و الخيال و البصيرة الملهمة. بينما اعتمد الواقعيون الواقع المعيش و اتّخذوه منهجا فكريا بحثا عن واقع جديد ينسج أبعاده خيال بنكهة الواقع .. فالخيال يمازج كلّ المذاهب الفنّية والأدبية و يضفي عليها سحر الأبداع الخلاّق..

ــ فهل الخيال يزيد جمال السرد؟

يبدو السؤال مرتبكا.. و كأن السرد في عمومه جميلا فزاده الخيال جمالا. و هذا لا يستقيم في الذّهن، لأنّ السّرد بدون خيال فني، هو تقرير حقائق مباشرة ليس إلا.

و من المفيد الإشارة أنّ ملكة الخيال ليست عطاء عامًا…يملكه الجميع، بل هو حصريا موقوف على بعض المهرة المحظوظين من الكتاب و الفنانين ..و من أجل ذلك تفاوت عمل المبدعين بين ما هو فنّي إبداعي ، و ما هو دون ذلك.

.و في الشطر الأخير من سؤال الأستاذ عبد المجيد أحمد محمود ورد التّالي :

ما هي الحدود التي يشتغل ضمنها عنصر الخيال في السّرد؟

إذا كانت هناك حدود مسطّرة للخيال. فليس ذلك من الخيال في شيء. لأنّ الخيال يمتد بدون حدود، وينطلق بدون توقف. هو فيض لا ينتهي إلى البحر أو المحيط بل يجرف البحر و المحيط معًا. و في ذلك يقول ألبرت إنشتاين : ” الخيال أكثرأهمية من المعرفة. فالمعرفة محدودة و لكن الخيال يحيط بالعالم .” ومن تمّ كانت حتمية تأويل النّصوص. لأنّ النّص المجرّد من الخيال هو نص إخباري مباشر، ينتهي بانتهاء قراءته، فيفيد لاز م الخبر، و لا يتعداه لغيره. فلا تأويل و لا ما يغري بذلك. والدّليل على أنّ الخيال مجنّح و قد يحلّق بعيدًا.. ظهور ما يسمى ب :الخيال العلمي ــ “science fiction ” خلال القرن العشرين . و من رواده : الكاتب الإنجليزي ،كاتب القصص العلمي :آرثر كلارك. و من لف لفّه مثل: “إسحاق أسيموف” و”روبرت آنسون هاينلاين“.و من رواد هذا الفن: “جول فيرن” و روايته التنبئية: ” من الأرض إلى القمر ” و”هربرت.ج.ويلز و روايته: “حرب الكواكب ” و لعلّ أمهرهم و أوسعهم خيالا علميًا “ليوناردوفينشى” الذي تخيّل الآلات الحربية التي بدت غامضة فى زمنه مثل : الغواصة والدّبابة، وفكرة الطّيران باستخدام التيارات الهوائية وتوظيفها.. فضلا عن روائعه الفنّية. في الرّسم. و من تمّ، لا فنَّ ولا إبداع دون رواء خيالي..

عملية التّخييل الفنّي موهبة راقية متميزة. لا يحظى بها كل من زاول الفن، بل يتمتع بها قلّة يشكلون بأعمالهم القدرة الإبداعية ( creativity). قال المؤلف الأيرلندي الشهير جورج برنارد شو: “الخيال هو بداية الإبداع، إنك تتخيل ما ترغب فيه، وترغب فيما تتخيله، و أخيرا تصنع ما ترغب فيه”. لهذا نقرأ نصوصا في القصة القصيرة، أو القصيرة جدا ، فنعيش أجواء الحكي، و نمط السّرد، و عنفوان الحدث، و تنافر أبعاد المفارقة، و متعة تقويض المألوف أو جعله غريبًا، والتّحليق خارج تخوم النّص بحثًا عن معنى المعنى( Meaning of Meaning) من خلال تأويل تفترضه الخَرجة. ما يثير العصف الذّهني، و ارتسام الصّور الذّهنية، وإعادة تشفير النّص..ففي هذا يبدو تأثير عامل الخيال واضحًا.. بينما نقرأ نصوصًا أخرى، فنشعر بالرَّتابة و الملل، و ثقل الاملاءات و الإنشاء، و محدودية الدّلالة، و المعنى المفاهمي المباشر..و كأنّ النّص مجزوء خبري صرف .و في هذا غياب تامٌّ لأبعاد الخيال و التّخييل.

* مسلك *

******

(*) ــ د علي محمد الهادي الربيعي، كتاب “الخيال في الفلسفة والأدب والمسرح “المطبعة / دار صفاء للطباعة والنشر والتوزيع ومؤسسة الصادق الثقافية / العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.