القصة القصيرة جدا و معضلة الكتابة عند الشباب

القصّة القصيرة جداً و معضلة الإبداع عند الشّباب

د مسلك ميمون
د مسلك ميمون

 


كما يتضح من هذا العنوان أنّ الحديث سينصب على الق ق ج، كفن جديد في نطاق السّرديات و ما يستوجبه من نظر ، فضلا عن معضلة الإبداع عند الشباب.
فالق ق ج كفن من فنون السّرد الحديث.عُرفت أوّل ما عرفتْ، في أوروبا و أمريكا اللاتينية أواخر القرن التّاسع عشر، و بداية القرن العشرين . و كانت الشّرارة المنبهة سنة 1932 بظهور كتاب( انفعالات) لنتالي ساروت والذي تُرجم إلى العربية في السبعينات، كما ظهرت كتابات القاص الأرجنتيني بورخيس.
و لقد اختلف في تسميتها اختلافاً كبيراً. حتّى لنجد لها اسماً خاصاً في كلّ جهة من العالم : ( ففي اليابان تدعى ( قصص بحجم راحة اليد ) وفي الصين ( قصص أوقات التّدخين ) , وفي أوربا اللاتينية سميت ( قصص ما بعد الحداثة) وفي أمريكا ( قصص الومضات ) وهناك تسميات عديدة مثل( قصة الأربع دقائق ) و( العشرون دقيقة) و( القصص السريعة) و ( القصص الصغيرة جداً) و ( المجهرية) و ( قصص برقية) و(الصعقة) و( شرارات ) و ( بورتريهات ) و( مشاهد قصصية ) و(القصة القصيرة الشاعرية) و( قصص قصيرة جداَ)
و قد ازدهرت في العالم العربي ، في لبنان و العراق و سوريا و المغرب و الجزائر و تونس و السّعودية. الشيء الذي جعلها تستقطب اهتمام المبدعين القصّاصين الشّباب . فتخلوا نسبياً عن القصيرة ، و الطويلة. و لجؤوا إلى أحضان القصيرة جداً . فمنهم من حالفه الحظ كما كان شأنه مع القصيرة و الطويلة. و منهم من أخذ الأمر تجربة و تحدّ فلم يحقق إبداعاً يستحق الذكر، في إطار عملية التّجريب هذه ،التي استغرقت عقد التّسعينات ولازالت مستمرة. استقطبت شباب الجامعات، و المعاهد، و المؤسسات العليا، و بعض ممن مسّتهم غواية السّرد من الخريجين. فتبنوا الفنّ الجديد، و وجدوا في منتديات النّت Net، و النّشر السّريع، ما ساعدهم على الانتشار و الظّهور.. و دعمت كلّ ذلك تعليقات المجاملة و الاستحسان. في غياب النّقد الجاد، و التّمحيص. فحصل تراكم كبير، شكّل ما نسميه معضلة الإبداع .

فما هي أهم سمات هذه المعضلة ؟

1 ــــــ استسهال كتابة الق ق ج : فالبعض وجدها ضئيلة، محدودة،في سطرين إلى خمسة أسطر… فأنشأ في اليوم أكثر من نص. و يفتخر بذلك.و لم يقرأ قول هارفي ستاريو إنّ : (القصة الومضة جنس أدبي ممتع ولكن يصعب تأليفه) . لأنّ الأمر رهين بنوعية الكتابة، التي تخضع لدرجة مركّزة في الضّبط، و الحذف، و الإضمار، و التّكثيف ..يصعب على غير المتمكن من اللّغة و قواعدها، و فنّ البلاغة و ضروبها ..أن يحققها بالوجه الأكمل .

2 ــ ثورة المعلوميات : كان من الممكن جداً اعتبار ثورة المعلوميات و الاتصالات ،و ثورة الأنفوميديا ،و المدونات الخاصّة على اختلافها ، نعمة لم تعرفها الإنسانية من قبل . و لكنّها كأيّ شيء في الوجود، محكومة بالإيجاب و السّلب ، فإنّ المدونات و المواقع المتعددة و المتنوعة… فسحت مجالا خصباً فسيحاً ، للكتابة و النّشر ..فظهر الغثّ و السّمين . بل كثر هذا الغثّ حتّى شاع و انتشر ، و قلّ السّمين حتّى أفلّ نجمه و اندثر.

3 ــــــــ غياب النّقد و المتابعة: يعد هذا،أكبر عامل في نشر كتابة الاستسهال. و نشر الكتابة الفوضوية باسم الإبداع، و حرية التّعبير.و ما نجده من كتابات نقدية من حين لآخر.لا يشفع للعمليـة النّقدية بالوجود الفعلي. لأنّ مسألة الكتابة المتبادلة(اكتب عنّي أكتب عنك) ستقحمنا ـــــ لا شك ــــ في مزالق المحاباة، و المجاملات، و غضّ الطّرف عن المساوئ و الهنات … إلا القليل المنصف منها، و الذي لا يكاد يذكر. قياساً لركام الإبداع الذي استسهل أصحابه العملية، فأنتجوا كما طاب لهم بحرية مطلقة.. و أنّى للحرية المطلقة من شبيه إلا الفوضى؟

4 ــــــــ دراسة خصائص الفن: البعض ـــ مع الأسف ــــ ما زال يردّد أنّ خصائص فنّ الق ق ج لم تكتمل بعد. و لا يظهر له هذا جلياً، إلا بعد أن يُنتقد عملُه نقداً جاداً. ينفي عنه صبغة الق ق ج، فيلحقه بالخاطرة مثلا.و إذا ما بحثنا الأمر نجد صاحب النّص لا يميز بين أجزاء الخطاب و أنساقه، و الإجراءات اللازمة و كيفية الإيصال، و لا الاستبدال و الاستدلال ، و لا الانسجام الداخلي و إثارة الذّهن .. بل نجد صاحب النّص يعاني تخبّطاً و تَخليطاً حتّى فيما يتعلّق بالسّنن اللّغوي : ( صوت ، تركيب ، معجم، دلالة ) و دعك من مسلمــــات هذا الفن : كالتّكثيف التّلميحي ، و الفكرة المحبكة، و الوحدة العضوية والموضوعية ، و هاجس المفارقة المستفزة، و عنصر التّوثر الدرامي ، و الحذف و الإضمار ، و الإشارة و الرّمز، و الواقعية و الشّاعرية …كلّ ذلك يشكّل ثقافة غائبة، قد يستحضرها في صورة مبسطة ساذَجة، لا تنمّ عن وعي و إدراك ، و فهم و حسن تدبر .

5 ـــــ عدم فهم الإبداع على أساس أنه إنتاج ( production) أي أنّ الإبداع عبارة عن ” ظهورٍ لإنتاج جديد ،نابع من التّفاعل بين الشّخص وما يكتسبه من خبرات “. و عدم استيعاب مراحل الإبداع الأربع : مرحلة الإعداد، و مرحلة الاحتضان، و مرحلة الإلهام، و مرحلة التّحقّق.
الإبداع في اللّغة هو الاختراع والابتكار على غير مثال سابق. وبصورة أوضح هو إنتاج شيء جديدٍ لم يكن موجوداً من قبل على هذه الصورة. وقد عرّفت الموسوعة البريطانية الإبداع على أنّه ”القدرة على إيجاد حلول لمشكلة أو أداة جديدة أو أثر فنّي أو أسلــوب جديد.” كما أنّه لا يمكننا إلا أن نبرز التّعريفات المشهورة للإبداع وذلك حسب تعــــريف العالم جوان (gowan): ” الإبداع مزيج من القدرات والاستعــــــــدادات والخصائص الشّخصية التي إذا وَجدت بيئة مناسبة يمكن أن ترقى بالعمليات العقليــــة لتـــؤدي إلى نتائج أصلية ومفيدة للفرد أو الشركة أو المجتمع أو العامل. كما أنّ العالم تـــــورانس torance)) قد عرّف الإبداع فقال ”الإبداع هو عملية وعـــــي بمواطن الضّعف وعدم الانسجام والنقص بالمعلومات والتنبوء بالمشكلات والبحث عن حلول، وإضافة فرضيات واختبارها، وصياغتها وتعديلها باستخدام المعطيات الجديـــدة للوصول إلى نتائج جيدة لتُقدَّم للآخرين.”

6 ــــــ لغة السّــــرد ، لطالما استوقفتني لغة السرد، فيما أقرأ من ق ق ج. البعض عن غير وعي يوظف الجمل التّفسيرية التّوضيحية، و قد يأتي بالجمل الاعتراضية ، والوصفية ، و قد يستعذبه جرس الحروف فينساق و جرس الجمل السّجعية،و كثرة الروابط …و كل ذلك يجعل النص منفتحاً لغويا ،منكشفاً دلالياً،فاتراً تأثيرياً..فلغة السّرد درجـات متفاوتة و مختلفة اختلافاً بيناً بين أجناس السّرد( الرواية،و القصة،و القصة القصيرة، و القصة القصيرة جداً.) فإذا كانت الرواية تسمح بلغة بنورامية و لا حرج.فإنّ القصة تكتفي بلغة مهذبة مشذبة مع بعض وجوه الاستطراد فيما يتطلب ذلك. بينما القصة القصيرة تعتني بلغتها و تتأنق فـــي اختيار ألفاظها، و يقلّ فيها الاستطراد ، و تعمد إلى التّركيز، و انتقاء الألفاظ، التي تخدم الدلالة. بينما الق ق ج تختلف لغتها اختلافاً كلياً عن الأجناس السّردية الثلاثة. و بذلك كان تميّزها، و شدّة صعوبتها، التي لا يدرك حقّها المبتدئون فيستسهلونها حباً في المغامرة. و لا مغامرة لمن يريد السباحة في قطرة ماء.و الذي ينبغي أن يستقر في الذّهن أنّ القصّة عموماً: تعبير بالحدث ، و ليس إلا الحدث . و لا ينبغي بأيّ حال من الأحوال، تغييبه في لغة هذيانية تَعني كلّ شيء، و لا تعني شيئاً. و لا يمكن ـــ أيضاًـــ أن يستحيل النّصُّ إلى تعبير بالصّورة فيتقاطع مع خصوصية جنس آخر، هو الشّعر.و هذا يحدث حتّى لدى بعض الكتاب المتمرسين، إذ يتَحول النّصُّ لديهم، إلى مقطع من قصيدة نثر خالصــــــــــة. فتتجلى الصّورة و يغيب الحدث. و هذا نتيجة الخلط ، و عدم احترام نظرية النّـــوع فـــي صفائها، و الإيمان العشوائي ، بتداخل الأجناس فيما بينها. وهذا أعتبره فساداً في التّصور. لأنّه في النّهاية يؤدي إلى خلط و فوضى، و حرية بلا ضفاف. فلا يميز السّــردي مـــــن الشّعري و لا ما يجب مما لا يجب.. و إن كان خوليو كورتازار يعرفها بأنّها” جنس سردي مغلق ذو لغة لولبية تجعل من (القصة) الأخ الشّقيق للشّعر” و لكن الإخوة الأشقاء، لم يكونوا في يوم ما شخصاً واحداً. فإذا كانت الق ق ج تتقاطع و بعض الأجناس الأخرى . فالتقاطع لا يعني الذوبان و التّماهي في الآخر.

7 ـــــ عملية التّجريب: ففي إطار الق ق ج.لا أفهم كيف يلجأ شاب مبتدئ إلى التّجريب ؟ و هو بعدُ لم يمتلك قواعد اللّعبة. لا أفهم كيف ينادي قاص بالتّجريب و يتبنى ما ذهبت إليه تنظيرات الرواية الجديدة، من تكسير للقوالب الكلاسيكية،والنّظر إلى العملية السّردية كعمل منفتح، يستوعب أجناساً أدبية متنوعة ..في الوقت الذي هو نفسه لا يدرك ذلك في العمق . و خلفه جمهور المتلقين، لازال متعثراً في قواعد الكتابة الكلاسيكية. ثمّ هل التّجريب هو الهدف و الأساس؟أم الصّدق في التّجربة ؟ ثمّ ما هي دواعي التّجريب عند القاصّ الشّاب؟ فهل استوفى مرحلة من العطاء، حتّمت عليه الانتقال إلى الجديد من خلال التّجربة ؟ أعتقد أنّ الخبرة أفضل معلم. و الخبرة لا تكون بين عشية وضحاها..فقـــد تمضي سنوات العمر، تجمعها عقود، و المبدع يلتمس طريقه إلى الخبرة المجدية .. و لكن البعض تتملكه نشوة التعليقات في منتديات الإنترنيت. فيعمد إلى ما يسميه التّجريب، و البحث المستمر عن الجديد. فيخبط خبط عشواء . فلا هو بالجديد، و لا بالقديم.لأنّ ما يكسب بسهولة يضيع بسهولة Easy come , easy go

نخلص إلى أنّ العملية الإبداعية في مجال الق ق ج . عملية صعبة ، فلا يمكن استسهالها بالشّكل الذي تعرض به في مختلف المنتديات الأدبية عبر النت. فثورة الأنفوميديا بقدر ما أدّت خدمات جليلة ، بقدر ما تسبّبت في نشر الغثّ ، و تسهيل ترويجه و نشره. وزاد غياب النّقد و المتابعة، أن أفضى إلى فوضى في الإنتاج، الذي لا تحكمه قواعد،أو تضبطه سنن. و الأمر يعود للتّقصير وعدم البحث و الدراسة ،و الاكتفاء بالرّغبة و الموهبة الفجّة.. و عدم ربط العملية الإبداعية بنسقية الانتاج، و تمييز لغة السّرد عن غيرها لخصوصيتها الحدَثيــة. و في أتون كلّ هذا . كانَ التّجريب و مازال مطلباً و مطمحاً.و لكن الأجدى في التّجريب ، و الأنفع ..حين يكون مطلباً ملحاً، بالنّسبة لمبدعٍ ممارسٍ موهوب . لا نزوة عابرة، في ذهن مبتدئ ، لم يتمكن من أدواته بعد ..

د مسلك ميمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.