ـ (ققج) لا تكتب كما تكتب القصة القصيرة.
أريد أن أقف عند الحدث في (ق ق ج).
و قبل ذلك أسأل :
ــ هل يمكن كتابة القصة القصيرة بطريقة القصة ؟ طبعا لا. لأنّ القصّة أكثر تفصيلا، و أزمنة و أمكنة و شخصيات من القصّة القصيرة .
ــ هل يمكن كتابة القصّة كما تكتب الرّواية ؟ طبعاً لا . لأنّ عالم الرواية أرحب، و يتطلب تقنيات قديمة/حديثة تميز الرواية عن القصة.وإلا انتفى الاختلاف بينهما وأصبحا جنساً واحداً.
ــ هل يمكن أن نكتب (ق ق ج ) كما نكتب القصّة القصيرة ؟ طبعاً لا .
و لكن لماذا البعض يُجري على (ق ق ج) ما يجريه على القصّة القصيرة و عنده الفرق في الحجم فقط ؟ هذا ليس منَ التّصور السّليم .لأنّ الحجم جزء من الكلّ، و ليس الكلّ .
فالق الق جداً ، تنطلق من فلسفة الإيجاز، على أنّها قصة، تنتمي للسّرديات و لكن في صورة تعتمد القصر والتّكثيف اللّغوي. و لضمان هذا ينبغي لكلّ عناصرها المكونة، أن تخضع لهذه الفلسفة، بما في ذلك الحدث.
الذي ألفناه متطوراً في القصّة القصيرة ،و القصّة، و الرّواية و حتّى المسرحية بل و في الحكاية و الخرافة …لأنّ المجال و الحيّز يسمح بالسّرد المُسهب، لكن في (ق ق ج ) المجال ضيّق، و الحيّز تُعد كلماته عداً (توِترياً ) فكيف نأتي بالحدث، و نبين كيف نشأ؟ و أسبابه؟ و كيف تلاحقت؟ و تطورت ؟ وكيف بلغ ذروة التّعقيد ؟ و ما ترتّب عن ذلك؟ وكيف كان الحل…؟
أليس كلّ هذه الأسئلة كثيرة جداً بالنسبة لثلاثة أسطر إلى خمسة …حجم الق الق جداً ؟
ربّما يقول قائل، ستكون الجمل قصيرة، و متتالية، و قفزعلى الزّمن و المكان…
و السّؤال أليس ذلك على حساب المتعة القرائية ؟ و متعة السّرد؟ أليس ذلك على حساب بناء النّص نفسه ؟ ثمّ كيف سمحنا لأنفسنا في (تجويع) اللّغة بتكثيفها، واختزالها بشكل لا يسمح بفائضٍ لغوي واحد، و نأتي للحدث ـ رغم أهميته ـ فنصرف إليه كلّ الاهتمام، و كأنّنا نقدّم للقارئ شيئاً جديداً، مُبهراً، لا علم له به…!
كلّ الأحداث في القصّة ، إلا و المتلقي على بيّنة منها، سواء كانت اجتماعية، أو سياسية أو نفسية… فالقاص لا يضيف شيئاً لعلم القارئ. إذا كان الحدث مثلاً : خيانة زوجية ، أوظلم و استبداد، أو أزمة اكتئاب …فما جدوى أن أحدثه في مواضيع يعرفها و على اطلاع بأسبابها و مسبباتها؟ أو يمككنه تخيّل ذلك ؟ و بخاصّة في الق الق جداً ، حيث مجالها السّردي ، و حجمها في غاية الضّيق و الصّغر.
فهل نستغني عن الحدث ؟
طبعا لا . هذا لا يجوز . و القصّة لابدّ لها من حدث . و لا قصّة بدون حدث .فما دام الأمر كذلك . نأتي بالحدث كاملاً مُجملا …و نشتغل على تجلياته، أو على أهمّها ، و أبرزها.
فمن جهة نكون قد اختزلنا الحدث في مجمله .
و من جهة أخرى انشغلنا فيما ترتبَ عنه ، أو أهمّ ما ترتب عنه، بصورة من الإيجاز، و التّكثيف اللّغوي . و نعطي أمثلة من نصوص لبعض كتاب هذا الجنس، على سبيل المثال لا الحصر :
النص الأول”انتحار” للقاص جمال الدين الخضيري / المغرب، من مجموعته “وثابة كالبراغيث ” :
” لما تلاشت المسارح في بلدي ، فوجئ الناس بانتحار الغابات الموحشة منها و المعمورة ، تاركة يافطة مكتوب فيها :
ــ الشجرة التي لا تتحول إلى خشبة عقبة.
نلاحظ الحدث [ لما تلاشت المسارحُ في بلدي]
لم يذكر الأسباب ، أو كيف تلاشت و انقرضت، و لا من ساهم في ذلك ، و لا لماذا عزف الجمهور للذهاب إليها… جاء القاص بالحدث مجملاً. ثمّ تلاه بتجلياته، أي ما نتج عن تلاشي المسارح ، و هو هنا يشكّل : جسد الق الق جداً :
[فوجئ الناس بانتحار الغابات الموحشة منها و المعمورة ، تاركة يافطة مكتوب فيها :
ــ الشّجرة التي لا تتحوّلُ إلى خَشبةٍ عَقبة.]
و في هذا رسالة ضمنية للأوساط الثقافية، للعناية بالمسرح. و بخاصّة أنّها جاءت رمزياً من خشب الغابات ، الذي به تُعدّ خشبةُ العرض المَسرحي .
و في نص رمزي ساخر للقاص د شريف عابدين / مصر .تحت عنوان ” تقشف ” من مجموعة : ” تلك الأشياء”
” سأل الرّجل السّلحفاة عن عمرها المديد ؟ أخرجت فمها و نكشت التّراب ! تعجب : تقصدين العيش الزّهيد؟ ظلّت تشير إلى درقتها و تتطلع إلى خاصرته ! صاح شدّ الأحزمة ! لكني لم أتخيلك بوقا للنظام.”
الحدث المجمل المكتمل الذي لا يحتاج تطوراً:
[سأل الرّجل السّلحفاة عن عمرها المديد ] العمر المديد للسّلحفاة .
ما جاء بعد ذلك من تساؤلات ،و تعجب… هو تجلّيات للحدث ليس إلا .
و من مجموعة “سحابة مسك ‘ نص: ” خيانة ” ، للقاص جمعة الفاخري /ليبيا
“أَمْلَيْتُ عَلَى سَارِدِي قِصَّتِي وَنِمْتُ .. لَكِنَّ المُرَاوِغَ الْخَؤُونَ حِينَ لَمَحَ فِي عُيُونِكِم غَيْمَاتِ إِعْجَابٍ تَهْذِي اِنْدِهَاشًا ، رَمَقَنِي بِعَيْنٍ خَائِنَةٍ لِيَطْمَئِنَّ عَلَى نَوْمِي .. وَادَّعَى أَنَّهَا قِصَّتُهُ هُو.!!”
قصة رمزية ذات بعد أخلاقي…يهمنا منها الحدث:
ــ الحدث و نجده في: [ أَمْلَيْتُ عَلَى سَارِدِي قِصَّتِي وَنِمْتُ ] إملاءُ القصّة، جاء مجملاً .
بمعنى أنّ مهمة الكاتب القاص انتهت، و النّص أصبح جاهزاً. و الحدث الذي هو الإملاء انتهى . و مع ذلك الحدث أصبحتْ له تبعات : ” لَكِنَّ المُرَاوِغَ الْخَؤُونَ حِينَ لَمَحَ فِي عُيُونِكِم غَيْمَاتِ إِعْجَابٍ تَهْذِي اِنْدِهَاشًا ، رَمَقَنِي بِعَيْنٍ خَائِنَةٍ لِيَطْمَئِنَّ عَلَى نَوْمِي .. وَادَّعَى أَنَّهَا قِصَّتُهُ هُوَ!! “
و هذا كله لا يشكل تطورا للحدث، لأنّ هذا الأخير ، بقي في حدود الإملاء.
و للمبدع القاص حسن البقالي المغرب، نص ” دمى روسية ” من مجموعته ” الرّقص تحت المطر”:
” لاشك أنّ الأمر يتعلق بانتهاك فادح لروح الإبداع، أن أسود الصفحات ، لا لشيء ، إلا لأن الناشر ينتظر مني العمل الجديد الذي وعدت به في لحظة حماسة زائدة.
لذلك وعوض الخمسمائة صفحة للموعودة ، سأكتفي برواية من مائة صفحة، بل بقصة قصيرة من ثلاث صفحات،و في النهاية ، لمَ لا أحصر اهتمامي في قصة قصيرة جداً من سطر واحد، تكون كالتالي: ‘ أخير كتبتُ قصة قصيرة جداً’ “
قصة ساخرة ، لما آل إليه الابتداع . و لكن ــ ودائماً ـ يهمّنا الحدث لنلاحظ كيف جاء مجملا:
ــ [الأمر يتعلق بانتهاك فادح لروح الإبداع ]
كلّ ما أتي بعد ذلك و كما هو في النص هو نتيجة الانتهاك/ الحدث ، بمعنى أنّ الحدث، استوفى حدّه ، و أن ما جاء بعده إنما ليوضح صور الانتهاك التي تدرّج نزولا من خمسمائة صفحة ، لسطر واحد هو قصة قصيرة جداً. تماماً، كالدّمى الروسية كلّما فتحنا الكبرى نجد بداخلها الصّغرى.
و من ذلك أيضا قصة “انتحار” ليوسف حطيني /فلسطين، من مجموعته “جَمل المحامل” 100 قصة فلسطينية قصيرة جداً :
” كان ناجحاً في عمله السّري. سَرى بين المناضلين مثل سم الأفعى ، فقدم للمحتلين قوائم بأسماء الخلايا و القادة و أماكن الاجتماعات…
سال بسببه دم كثير، و انتظرت نساء عودة أبنائهن و أزواجهن بدون جدوى. خطر له بعد هذا النّجاح المبهر أن ينظر في المرآة.”
و مرّة أخرى يأبى الناقد و القاص يوسف حطيني إلا أن يأتي بالحدث مُجملاً :
[كان ناجحاً في عمله السري]
و كلّ ما جاء بعد ذلك، هو مجرد تجل للحدث. لإبراز فظاعة الوشاية بعناصر المقاومة.
و لا يمكن الادعاء أن ذلك ساهم في تطور الحدث . لأنّ هذا الأخير جاء كاملا في العبارة التي تصدرت النّص.
و هكذا يتّضح أنّ الحدث، قد يكتفي القاص بتجلياته، دون أن يعمد لتطوره للأسباب التّالية :
1 ــ تطور الحدث رهين بحيز يتّسع لأسباب التّطور.( القصة، الرواية ، المسرحية …)
2 ــ إذا توفر الحيز لا يمكن القفزعلى أسباب التطور، لأن النص سيفقد متعته القرائية.
3 ــ الحدث في القصّة دارج،ومعروف كأيّ فكرة شائعة، والقاصّ لا يكتب إلا فيما هو رائج
و معروف عند الجميع . ..
4 ــ الق الق جداً لا تتّسع لتطورات الحدث،فهناك أجناس أخرى تتّسع لذلك،بما فيه الكفاية .
خلاصة القول، الخلط بين الأجناس السّردية من حيث الكتابة ، يجعل مصطلحاتها المعتمدة اعتباطية، ولافائدة اصطلاحية ترجى منها . لأنها تصبح غير دالّة ، و لا مميّزة، فكلٌّ و ما أعِدَّ له. و الق الق جداً تحتمل التّكثيف و الإيجاز، و الاختزال في كلّ عناصرها المكوّنة بدون اسْتثناء. طبقاً لفلسفتها التي من أجلها وُضعت .