جورج طرابيشي | من موت الفلسفة إلى موت العقل

جورج طرابيشي | من موت الفلسفة إلى موت العقل – الجزء الأول

مايكل عطااللهأبريل 12, 2019

الكاتب و الناقد و المترجم جورج طرابشي

جورج طرابيشي (١٩٣٩-٢٠١٦) مفكر وناقد ومترجم سوري. ترجم لعدد من الكتّاب والفلاسفة من بينهم فرويد وسارتر وهيغل وبرهييه. له مؤلفات عدّة في النقد الأدبي استخدم خلالها منهج التحليل النفسي في قراءة روايات لنجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف ونوال السعداوي وغيرهم. على مدى أكثر من ربع قرن، عمل على مشروعه لنقد نقد العقل العربي في خمسة أجزاء للرد على مشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري لنقد العقل العربي. وتتصدى هذه المقالة لنقد بعض ما ورد في كتاب «نظرية العقل»، أول أجزاء المشروع.كان طرابيشي قد حذّر بسداد سنة (1993) من ممارسةِ مذبحةٍ نظريةٍ بحق التراث العربي الذي يجري تشطيره واختزاله بما يتلاءم مع الأيديولوجيا القارئة له. والحال أن عمليّة التشطير والاختزال يلزمها عملية تغييب أو ما يسميه طرابيشي بالحذف.

«فالحذف هو رفيق درب دائم لكل رؤية أيديولوجية للتاريخ. فكل ما يستعصي على الإدخال من عنق زجاجة المخطط الأيديولوجي يجري بتره. وكل نتوء أو نشوز تتم تسويته بإلغائه».(1)وقد ترتب على هذا التصوّر محاكمة نقدية صارمة لعدد من المفكرين العرب الذي مارسوا ضربًا من المذبحة بحق التراث العربي، كل من موقعه الأيديولوجي (الماركسيي، والقومي، والفلسفي) مثل سمير أمين، وتوفيق سلوم، وزكي الأرسوزي، ومحمد عمارة، وزكي نجيب محمود، ومحمد عابد الجابري. بيد أنّ كل هذا الضجيج الذي أثاره طرابيشي، وكل هذا التحذير من أي عملية حذف في قراءة التاريخ لن يمنعاه، بعد ثلاث سنوات فقط، من ممارسة مذبحة بحق التراث اليوناني المتّهم -كله- بأنه ميتافيزيقي، وأنه بميتافيزيقيته قد حكم على نفسه بالموت.
هكذا يقول طرابيشي في كتاب نظرية العقل الصادر سنة (1996):

«إن العقل اليوناني الذي استطاع من خلال معركة مع الميتوس أن يؤسس نفسه في لوغوس ما فتئ يدور على ذاته ويأكل نفسه ويتحول إلى ضرب جديد من الميتوس».

ويتابع محللًا بنية العقل اليوناني فيقول بالحرف:

«إنّ العقل اليوناني تأملي، عقلانيته نظرية ونصابه الميتافيزيقا».

ويستطرد قائلًا:

«إنّ الثيولوجيا، لا الفيزيولوجيا ولا الأنثربولوجيا هي النصاب الأول للعقل اليوناني».

ودليل طرابيشي شبّه الوحيد على ميتافيزيقيا العقل اليوناني هو ما تراءى له من طغيان النزعة الثيولوجية على فلسفة المعلم الأول الذي كانه أرسطو. (2)
والحال أن طرابيشي لا يستحضر أرسطو الإلهي إلا ليغيب بالمقابل أرسطو العلمي وصاحب التصانيف البيولوجية. وسنترك الكلام لواحد من أبرز مؤرخي الفلسفة اليونانية في القرن العشرين وصاحب مؤلف أرسطو والمدرسة المشائية يحدد مكانة المعلم الأول في تاريخ العلم:

«يُجمع مؤرخو العلوم على اعتبار أرسطو مُكتشِفًا لا نظير له في مجال التاريخ الطبيعي. ونلحظ أنّ الكثير من ملاحظاته التي كانت موضع نسيان أو تهكّم، تعود اليوم لتقدّم دروسًا ثمينة لعالِم الطبيعيات والبيولوجيا. وينبغي أن نسجّل لأرسطو ريادته في مجال تصنيف الكائنات الحيّة، حتى أنه حاز على تقدير كل من بوفون وداروين وكوفييه. أما مؤلفاته في هذا المجال فهي: تاريخ الحيوانات، وأجزاء الحيوانات، وحول تنقّل الحيوانات. ويتضمن كتابه عن النفس بعض الأفكار عن هذا الموضوع. بالإضافة إلى كتاب النباتات الذي ضاع ولم يصلنا».

هكذا تعود الحقيقة لتقف على قدميها لا رأسها. فأرسطو الذي كان ميتافيزيقيًا كبيرًا، كان في الوقت نفسه وبالقدر نفسه فيزيقيًا كبيرًا. ولا يكاد يخفى دوره العلمي على أي متخصص رصين في تاريخ الفلسفة باستثناء البعض ممن لا اختصاص لهم غير المماحكة.

وهكذا أيضًا يتحول ناقد المذبحة إلى عميل داخلي، لا شاغل له سوى الافتئات على غيره للتغطية على افتئاته. ولن يتوقف الحذف عند أسوار الفلسفة الأرسطية بل سيتعداه ليشمل كل قلعة العقل اليوناني. هكذا يحذف طرابيشي الفيزيولوجيا ثم الأنثربولوجيا من قراءته اليوناني الذي لم يفعل غير أن أكل بل قتل نفسه إذ انحط إلى محض عقل ميتافيزيقي. ولن يكون أمامنا الآن سوى استحضار ما حذفه طرابيشي، أي علمية العقل اليوناني بشقيها الفيزيولوجي والأنثربولوجي.

لا مكان للطب الإغريقي في جدارية طرابيشي المأساوية عن عقل يوناني ميتافيزيقي، إذ تغيب عنه سلالة كبيرة من الأعلام البارزين في المجال الطبي والتجريبي. هكذا يغيب أولًا أبقراط، كبير أطباء العصر القديم ومؤسس علم أخلاقيات الطب. ويغيب ثانيًا هيروفيلس، عالم التشريح الذي قام بدراسة الجهاز العصبي وتحديد تجويفات المخ حيث لا زالت أجزاء من المخ تحمل اسمه إلى يومنا هذا. ويغيب ثالثًا إيراسيستراتوس الذي درس الجهاز الدوري وأثبت أن الدم يدور من الشرايين إلى الأوردة عبر مسارات دقيقة. ويغيب رابعًا أركاجاتوس الذي كان أول طبيب إغريقي يصل إلى روما، هذا في وقت كان فيه الإغريق يقيمون طبًّا مؤسسًا على التجريبية والعقلانية بينما كان سكان إيطاليا يعالجون وفق وصفات تمزج بين التقاليد السحرية والأضاحي الدينية. ويغيب خامسًا أركجين الذي ألّف حول الجراحة وكان أول من استخدم المنظار المهبلي ويرجح أنه كان يقوم بربط شرايين الأطراف قبل بترها. ويغيب أخيرًا جالينوس الذي يعود له الفضل في إنجاز صياغة متميزة للمذاهب الفلسفية المتعلقة بالطب، مؤكدًا على الالتزام بالملاحظة الدقيقة للمرضى، بالإضافة إلى طرحه فكرة التجريب.(3)

ولا نفي علمية العقل اليوناني حقها ما لم نتوقف -ولو سريعًا أيضًا- عند التأريخ كما عرفه اليونان والذي لاحت أولى نذره منذ أن قام تاليس الملطي فتنبأ بكسوف الشمس في عام (585) ق. م. وتحقق تنبؤه، حيث كان ذلك إيذانًا بمفتح عصر جديد في تاريخ العقل البشري. لقد تملك الإغريقي من ذلك اليوم شغف بالبحث أو ما يسمونها باليونانية (إيستوريا) أي تاريخًا. ومن بين أبرز المؤرخين الإغريق نذكر على سبيل المثال لا الحصر هكتيوس (550-476 ق. م.) الذي كان سبّاقًا إلى تأسيس أنثربولوجيا تاريخية بدراسته عن أصل الشعب الإغريقي وتجولاته الأولى. وحاول أكثر من ذلك، علمنة الأنثربولوجيا نفسها حيث يقول:

«لست أثبت هنا إلا الحكاية التي أعتقد صحتها، فإنّ أساطير اليونان كثيرة، وهي عندي حديث خرافة».

وكذلك نذكر يوليبيوس (204-122 ق. م.) الذي كان يمتلك نزعة علمية أقوى من غيره، بل إنه كان من أوائل المؤرخين الذين أوجدوا علاقة ما بين الفلسفة والتاريخ حيث يقول إن:

«التأريخ هو تعليم الفلسفة بضرب الأمثال». (٤)

وعندما يقول لنا طرابيشي بشخطة قلم إن الميتافيزيقا، لا الفيزيولوجيا ولا الأنثربولوجيا هي النصاب الأول للعقل اليوناني، فلنا أن نشتبه في أن العقل اليوناني الذي يقصده طرابيشي هو ذلك العقل الذي أنجب سلالة طويلة من الأطباء والعلماء البيولوجيين والتجريبيين، وهو العقل نفسه الذي كان أول من اجترح مفهوم التاريخ ومن ثم الأنثربولوجيا بوصفها تاريخ التاريخ. وهو ذلك العقل الذي كتب في الطب والتاريخ أكثر مما كتب في الميتافيزيقا وكان له التاريخ بمثابة الحجر الأساس في عمارة تفكيره.

وإذ كان في تصورنا حتى الآن أن ثيولوجية أرسطو هي الدليل الأول -بالإضافة إلى مثالية أفلاطون- على جرم العقل اليوناني الذي أسر نفسه داخل قضبان الميتافيزيقا، فإن طرابيشي يخبئ لنا مفاجأة، فنراه يشيد في نص آخر من الكتاب نفسه بعلمية أرسطو حيث يقول إن الأخير «قد تحرر من إسار الميتافيزيقا التأملية.. وانعتق من ربقة التصورات النظرية الخالصة، وطوّر معارفه البيولوجية في علوم الحيوان والبنات والتشريح، وانفتح انفتاحه الموسوي المدهش على جميع فروع الفلسفة العلمية». (5)

هكذا يكون ناقد المذبحة قد ذبح نفسه. فما كفاه أنه زيف تاريخ الفكر اليوناني وكذب على قرآئه، بل إنه ترك لهم دليلًا على كذبه ليسخروا من مفكر، وعدهم بفرح العقلانية فإذا به يقودهم إلى ذل السخافة.
يبقى أن ثمة نقطتين ناقصتين لا بد من الوقوف عندهما قبل إنهاء المقالة:

أولًا: هل نتحدث -على غرار عشرات الباحثين- عن معجزة يونانية في حديثنا عن العقل اليوناني وريادة اليونان؟ بديهي أن لا. فتاريخ العقل هو تاريخ مضاد للمعجزة من حيث أنها تاريخ ما قبل العقل. لكن لا يجوز في كل مرة، وخشيةً من بعض الاتهامات ذات الغمز العنصري، ألا نعترف بعبقرية الإغريق وريادتهم في تأسيس ثورة عقلية وإنسية وعلمية غير مسبوقة.

ثانيًا: إن طرابيشي الذي ذبح نفسه أول مرة عندما أقر بعلمية أرسطو الذي نهض جزء من فلسفته الإلهية دليلًا على ميتافيزيقية العقل اليوناني، سيذبح نفسه مرة ثانية عام (2004). ففي هذا العام صدر كتابه العقل المستقيل في الإسلام؟ وفيه يضع موت العقل اليوناني، لا في سياق الانتحار من الداخل كما أوهم قراءه لسنوات، بل في سياق الاغتيال من الخارج هذه المرة. فالسلطة الكنسية التي لاحقت الفلاسفة وأغلقت معاهد الفلسفة مع بدايات المسيحية هي المسؤول الأول والأخير عن موت العقل اليوناني. وبالفعل يستقر رأي طرابيشي في النهاية على أن «ما حدث في تاريخ العقل هو إقالة لا استقالة»، وأن «ما جرى في التاريخ في القرون الأولى الميلاد كان عملية استئصال وإبادة حقيقية لجنس الفلسفة»، ويختم: «العقلانية اليونانية لم تنتحر، بل قُتلت قتلًا شنيعًا». (٦)

وأمام هذا الحكم الأخير الذي يرفع موت الفلسفة إلى خانة موت العقل بإطلاق، فإننا نجد أنفسنا أمام موضوع آخر لنص آخر، سيكون هو الجزء الثاني من هذه المقالة.

إعداد: مايكل عطالله
مراجعة علمية: مايكل ماهر
مراجعة لغويّة: حمزة مطالقة
تحرير: نسمة محمود

المصادر والمراجع https://www.egyres.com/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.