ثقافة
أضـــــــواء على «فـــن القصــة من الملحــمة إلى الومضــة»
المصدر ،موقع /الوحدة /العدد: 9365
13-6-2019
علاقة وطيدة جمعت مهنة الطب بالأدب والفلسفة، فالعلاقة الحميمية التي ربطت الطبيب بالكينونة البشرية هي مادة دسمة لإثارة الشعور وتمكين الصلة بقضايا الفكر على صعيد الفلسفة والأدب، فكيف لهذه الصلة لو كانت مع الأنثى وفي أبرز خصوصياتها الإنجابية، إن علاقة الطبيب مع الولادة وآلامها وآثارها بالجوانب الإيجابية والسلبية كفيلة بخلق تلك الاندفاعة الشعورية للكتابة وربما الإبداع وفي مختلف الأنشطة العقلية..
من تلك العلاقة بدأ حديثنا مع الطبيب الأديب زهير سعود الذي حقق تميزاً في الطب لا يفوقه إلا نجاحه في عالمي النقد والأدب لنخوض بعدها في تفاصيل تجربته الغنية في القصة وكتابه حولها..
* لنتوقف عند كتابك (فن القصّة من الملحمة إلى الومضة) والذي حقق انتشاراً ونجاحاً، وحاز على اهتمام كثير من النقّاد والمتابعين، حدثنا عن دوافعك لإنجازه والظروف التي رافقت ذلك؟.
** دعيني أنطلق من آخر لفظة في عنوان الكتاب وهو (الومضة)، فالقصّة الومضة أو ما ندعوه نحن العرب بالقصّة القصيرة جداً من أطلق شرارة الكتاب، وهو دراسة نقدية تناولت تطور فن القصّة، منذ كتبت على الألواح الطينية في ملحمة جلجامش وحتى صارت تكتب ببضعة كلمات تكفيها قصاصات الورق، ففي عام١٩٢٤ وفي أحد المؤتمرات الأدبية نطق الكاتب الأمريكي أرنست همنغواي قصته الشهيرة (للبيع) بعد أن قال للحضور: اكتبوا قصّة بست كلمات، بعدها نشأت حركة صعود هذا الجنس الأدبي في أمريكا اللاتينية، بلد الثورة الأدبية الحداثية التي أطلقها خوليو كاتاثر، وأنجز مونتريسو الغواتيمالي في المكسيك كتبه المتخصصة بهذا الفن (ما بعد الحداثي) مع نهاية العقد الرابع للقرن العشرين، فالقصّة الومضة هي التعبير الأدبي الاقتصادي الجامع لخصائص وسمات أدب القرن العشرين، وانطلاقتها أمريكية لاتينية لم تقف داخل الحدود بل تجاوزتها لتغزو العالم، وكان لا بد من مرورها على العرب، وهنا حدثت المشكلة التي تسببت في تفكيري بموضوعات الكتاب، فالكتبة العرب مأخوذون بغنى (تجربتهم) للدرجة التي لا يسمحون بها لأي فن حداثي دون المرور على مرشحة تلك التجربة!. وبالفعل فقد صدرت كتب عربية الأصل تنادي بالجذر العربي التاريخي لهذا الجنس الأدبي وأصّلته بالحكاية الشعبية والطرفة ونوادر جحا وأشعب، غير أن الحقيقة تقول غير ذلك وهذا الفن هو ثمرة تبدلات عميقة للسرد القصصي أسست له الفلسفة الوجودية وعلم النفس وتطور مفهوم اللغة السيميائي، فنشأت الرواية الجديدة مع ناتالي ساروت بانفعالاتها وأساليب السرد القصصي عند فيليب سوليرز وكلود سيمون وغيرهم، ومع هذا الفن الحداثي مكنت مدرسة تل كوول وأقطابها مثل رولان بارت وجاك دريدا وجوليا كريستيفا معرفتنا بلغة جديدة إيحائية صاغ بها الوميض قصصه التي بدا كل ما فيها مختلفاً عن أساليب السرد الكلاسيكية ولغتها التفصيلية الخبرية، وأصبحنا نقرأ النص القصصي للمتعة بإعادة تشكيل النص وإشراك المتلقي في الكتابة، بدل المتعة الجاهزة والمطبوخة على يد الراوي كما كانت عليه قصص العهد القديم في لغة الخبر، لقد درج فن القصة القصيرة جداً بين العرب دون محاولة جدية لفهم الجذر التاريخي لهذا الفن والاهتمام بشعرية القصة الومضة، ما جعل يوسف الحطيني يذهب لاعتبار الحكائية من أهم أركان الفن، وما فعله كتابي فن القصة تناول القصة في حركة تطورها وانتقالها بين الأجناس والفروع القصصية، مثبتاً واقع الخيال ودور النقد الأدبي في فهم فوارق الأجناس.
فالخيال المؤلف لا يقف إشعاعه على خصائص ستاتيكية، كذلك هو الرمز ومفهوم اللغة الإيحائية، وبناء على ما سبق توالدت الأجناس وحدد النقد الأدبي لها سماتها وخصائصها الأسلوبية لتنويع الخطاب والحبكة القصصية وجمالية السرد، لقد نما شعور عربي جامح للتجريب بفن القصة الومضة، أكثر ما شهدناه في صفحات التواصل الاجتماعي، وقد لفتت انتباهي مدى الحاجة لتجديد فهمنا لهذا الفن بسبب الخروقات والخلط مع النوادر والطرف والحواتيت فيما نصادفه من محاولات، وتعمد الكتاب أن يؤصّل القصة ليس بالنوادر بل الملحمة، وأنا أتحدث هنا عن القصة كمفهوم مجرّد، ولكن في تناول البنية الشكلية لهذا الفن فقد آن الأوان لقراءة جمالية الفن فيما تخصص به من لغة خاصة وخطاب خاص وحبكة خاصة وغايات مختلفة، فالفن ارتبط بالمايكرو الأمريكي اللاتيني والفلاش الأمريكي والمنمنات الروسية وقصة الورقة الصينية وأسماء عديدة وسمت الفن ولم يرتبط ارتباطاً عضوياً بالأشكال الكلاسيكية للقصة العربية وغيرها، ولهذا حرصت في كتابي تناول الطبيعة الديداكتيكية لهذا الفن ليكون الكتاب مرجعاً تفصيلياً شاملاً لمقاربة الفن.
* لكن القصة القصيرة جداً ما زالت مثار جدل في عالم الأدب، هل تحدثنا عن تجربتك المميزة مع هذا الجنس الأدبي الذي يذهب أكثر إلى أنه وافد جديد على الرغم من وجود أدلّة كثيرة على عراقته وقدمه؟.
*** سأتناول هنا دلالات الألفاظ المهمة في الحديث عن هذا الفن، فكما هو واضح نحن نتحدث عن قصّة وعن جنس أدبي، وعن صلة هذا المفهوم وذاك بالقدم والحداثة، فمما لا شك فيه أن الضجيج الإعلامي حول فن الومضة أثبت إجناسيتها ومن شروط ذلك الانتشار والمشابهة والتعميم، ثم إن الحديث عن قصّة سيجعل في دراستنا للمفهوم تناول الحاوي والمحتوى أمراً ملحّاً، وفي دراستنا للحاوي تتوارد على الذهن الإجابة على سؤال طرحه الكاتب القدير غسان كنفاني حين قال بعدم وجود ما أثبت له الحديث عن جنس أدبي جديد، ولكن شقيقه الأديب عدنان كنفاني تناول الأمر بطريقة مختلفة تماماً حيث أقر الحداثة وخاض تجربة خاصّة مع هذا الفن، مرّ عليه كتابي فن القصّة ليثبت حجم اللامبالاة في تعاملنا التاريخي مع جنس القصة القصيرة جداً، وهو تأثير بقي يلقي بظلاله على المقاربات اللاحقة عند الحطيني وجاسم الحسين وعلي حسين محمد وخلف الياس وغيرهم، لو شئنا تناول صلات هذا الجنس الأدبي بالقديم، فيكفيه اصطلاح القصّة الذي أثبت وجوده فيه، فالقصّة قديمة بقدم الإنسان الناطق والكاتب، وهذا يعيدنا للصلة بالملحمة ليس من حيث تضمين الملحمة للقصة فحسب بل والاشتراك ببعض التقنيات السردية كالأسطورة والجراءة والفانتازيا وشاعرية السرد وغير ذلك، في الحديث عن الجنس الأدبي وما تضمنه السؤال من إقرار بإجناسية الفن وهو إقرار حسمه الأدب العالمي والعربي، أود التذكير بنظرية الأجناس وأهم خصوصياتها في التوالد، فالأجناس الأدبية كما نعلم تمتلك هذه الخاصية عندما يجتمع للجنس الوليد عناصر الشخصية الإجناسية، فليس من المنطق الدمج بين مفهومي التكاثر والتوالد لأن التكاثر قد ينجم عن الانشطار والتحوّل أما التوالد فهو رهن بمخلوق جديد حمل بعض صفات الأصل وأثبت فرادته وتميّزه وخصوصيته في الكينونة، هكذا فأول التباس عربي مع جنس القصة القصيرة جداً هو حول النظر في إرجاع المولود لأصله، وكأن معظم المحققين لم يقع على عيونهم مفهوم الرواية الجديدة وضبط الفوارق بينها وبين الرواية الكلاسيكية، ونحن نتحدث هنا عن فارق اللغة والشعرية والحبكة والتوجه وأسلوب الخطاب والقصدية والمعاني وباختصار ضبط فوارق الجمالية للأسلوب القصصي، يرتبط مفهوم الجنس الأدبي ببعد زماني له اتصاله بالظرف التاريخي الذي أنتج الفن، وليس من الغريب أن يدعى فن القصة القصيرة جداً بقصة ما بعد الحداثة، ولهذا الزمن خصائصه الاجتماعية والثقافية والنفسية الخاصّة، فمما لا شك فيه أن من واسمات العصر الفكرية الدمج الإبداعي لمفاهيم علم النفس والسريالية وتأثيراتها على الفنون، فأهم الخصائص البنائية للقصّة الومضة هو الكثافة والتي لا تقف تمظهراتها على ضيق العبارة بالمعنى النفري للكلمة بل إن أهم ما في الكثافة هو الإزاحة وهذا يجعل الفن ملتزماً محور الاستبدال اللفظي الذي جعل القصة القصيرة جداً مقتصدة الألفاظ منفلتة الدلالات، وفي كل هذا بون شاسع بين الأنماط القصصية القديمة والحداثية.
* لتتحدث ختاماً عن الرواية فالبعض يجد أنها فوق الأجناس الأدبية النثرية جميعها، فما تقول أنت؟ وهل فكرت في كتابة الرواية؟.
** يطرح السؤال تساؤلات عديدة، فما المقصود بالرواية، هل هي الرواية الكلاسيكية أم الحديثة أم ما أطلق عليه جان بول سارتر بالرواية الجديدة وعكس الرواية، لقد تبدل مفهوم الرواية كثيراً منذ أول رواية عرفها التاريخ لأبولوس الأمازيغي وهي الحمار الذهبي، وأول رواية عرفتها أوروبا في القرن السابع عشر لسرفانتس، وحتى روايات العصر الحداثي التي مثلت رواية وداعاً للسلاح لهمنغواي أنموذجها، ثم الرواية الجديدة التي أطلقتها انتحاءات أو انفعالات الساروت وشكلت أحد الأصول المهمة لجنس القصة القصيرة جداً، نعم لقد كانت الرواية فوق الآداب فيما دعوناه عصر الرواية والذي تلا عصر الشعر والملاحم الموغل في القدم وتلاه عصر المسرح مع الرومانسية وترجمة فولتير، لقد نظّر أصحاب مدرسة النظرة وأهمهم كلود سيمون وناتالي ساروت في عصر الشك لولادة الرواية الجديدة المأخوذة بالاقتصاد الدلالي وانحسار الشخصية للاختباء خلف الضمائر، وانقلاب معيار الرواية من الزمان إلى المكان، فكل ذلك سببه ما أحدثه التطور التاريخي في شروط الإبلاغ والإطلاق للأعمال الأدبية. نحن نعيش الآن زمن النصّ الوامض في لغة الشعر والنثر فأكثر ما تطلقه الأقلام الأدبية هو الومضة الشعرية والقصة الومضة أو القصة القصيرة جداً، بكل تفاصيلها فما تلاه هو اقتصاد وتكثيف وانقلاب بقيمة المعنى على حساب المبنى، فالرواية لا تفقد قيمها الجمالية مع اتساع فضاء السرد وتحميل عناصره خصائص العصور التي مر بها العمل الروائي، لقد أنجزت روايتي (الحلم في ليلة القدر) وهي في مرحلة المراجعة والإعداد للنشر.
نور نديم عمران