البروفسور فؤاد بن محمد سزكين البِتْلِيسي التّركي

 

محمد وائل الحنبلي:


توفي اليومَ صباحَ السبت بمدينة إصطنبول 17 شوال 1439، الموافق 30 حزيران 2018م:
‏العالم الموسوعيُّ الأُعجوبة البروفسور فؤاد بن محمد سزكين البِتْلِيسي التركي، بعدَ عُمرٍ حافل بالدفاع عن الحضارة الإسلامية، والردِّ العِلميِّ على افتراءات بعضِ المستشرقين.
وُلد هذا الجبلُ العِلميُّ بمدينة بيتلس شرقَ تركيا، في 24 ربيع الأول 1343، الموافق: 24 تشرين الأول 1924م.
دَرس المرحلةَ الابتدائيةَ في بلدة (دُوغو بايزيد) التابعةِ لمحافظة (آغري)، هذه البلدةُ التي زرتُها مِن نحوِ إحدى عشرةَ سنة، فأحببتُ طيبةَ أهلِها وكرمَهم، ولا تزال علاقتي بهم إلى الآن.
عاش رحمه الله فترةَ شبابِه وتعليمِه وهو يشعر بالألم لما يشاهده مِن ظُلم المناهجِ المعاصرة والمقرّرات المدرسيَّة لتاريخنا العربي والإسلامي، ويرى كيف أُبعد الجيلُ المعاصرُ عن معرفة العلماء والعلوم التي ابتكرها ووضعها المسلمون.
وعندما بلغ العشرينَ مِن العمر بدأتْ رحلتُه العلمية، فتعلَّم اللغةَ العربية وأَتقنها، بل إنه أتقن الكثيرَ مِن اللغات حتى المُندَرِسةِ منها، وهذا ينبغي أنْ يُفردَ ويُدرَس على حِدَة!
ثم جاء الانقلابُ العسكريُّ المجرم في تركيا سنةَ: 1960م، الذي أُعدم بسببه الرئيسُ المنتخبُ عدنان مندريس رحمه الله، وهنا بدأت المرحلةُ الأليمة القاسيةُ لهذا العالم الغيور المحبِّ لتاريخ بلدِه، ففُصل من جامعة إصطنبول، وقرَّر الهجرةَ من بلدِه والسفرَ لأُوربا.
وهنا أنقل لكم لحظاتِ هجرتِه التي يَبكي لها مَن تعرَّض لنحوٍ منها، فإنه وقف بمكانٍ عالٍ وهو ينظر لإصطنبول باكيًا يقول بنفسه: (كيف سيُمكنني العيشُ طيلةَ حياتي بعيدًا عن إصطنبول التي أعشقها).
إلا أنَّ الله تعالى عوَّضه خيرًا، ورجع معزَّزًا مُكرَّمًا إلى بلده في ظلِّ الحكومة الحالية، بل واستقبله رئيسُ تركيا بالقصر الرئاسي.
استقرَّ رحمه الله بألمانيا، فكانت حكمةُ الله في هجرته أنْ تُفتح له آفاقُ المعرفةِ والتصنيفِ والبحث هناك، فقد ألَّف في الميدان العلميِّ كثيرًا مِن المؤلفات، فضلًا عن الكثير مِن المحاضرات والمقالات.

ومِن الصعب جدًّا الإحاطةُ بأسماء مؤلفاته وكتبه، لكثرتها واختلافِ اللغات المؤلفة فيها، إلا أنني سأذكر كتابًا لا يستغني عنه باحثٌ أو محقِّقٌ أو طالبُ عِلم وهو:
ـ تاريخ التراث العربي، الذي طُبع منه قسمٌ باللغة العربية في اثني عشرَ جزءًا، وإلا فهو باللغة الألمانية يقع في عشرات الأجزاء، وأنا أرى أنَّ هذا الكتابَ مِن أعجب المؤلفات الفردية في العصر الحديث، وقد أبرز فيه جهودَ المسلمين في مجالات الحضارات المختلفة، وحاول جمعَ أسماءِ تراثِ المسلمين في الطب والصيدلة والبيطرة وعلم الحيوان والكيمياء والزراعة والنبات والرياضيات، وغير ذلك …
وله: ـ العلم والتكنلوجيا في الإسلام.
ـ اكتشاف المسلمينَ للقارة الأمريكية قبلَ كريستوفر كولومبوس
ولا يسعني هنا إلا أنْ أَذكر فضلَ زوجتِه وعملَها معه، فقد كانت تُصحِّح كتبَه وتقابلها.
وقد كُتب عنه كتابٌ بعنوان: (مكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين).

وختامًا أُريد أنْ أنقلَ موقفًا له يُعدُّ درسًا للأجيال، وموعظةً لكلِّ ذي لبٍّ عاقلٍ يعمل لإعمار الأرض:
من نحو خمسةِ شهورٍ وفي إحدى مكتبات إصطنبول اجتمع أخي شقيقي الأستاذ محمد براء الحنبلي بالبرفسور فؤاد سزكين، فرآه وهو في التسعينَ مِن العمر مُتعبًا مُنهمِكًا بشراء بعضِ الكتب والمراجع، فتعجَّب أخي مِن ذلك، ثم علم منه أنه بدأ بجمع مكتبةٍ علميةٍ جديدة، بعدَ أنْ قرَّرت الحكومةُ الألمانية وضعَ يدِها على مكتبته الضخمة، التي تحوي جمعًا هائلًا من الوثائق والمخطوطات بكثيرٍ من اللغات؛ لأنها صنَّفتْ هذه المكتبةَ ضمنَ التراثِ الألماني القومي، وذلك بعدَ أنْ قدَّموا له تكريمًا وتعويضًا، وأَعطوه ما يريد مِن ثمنها !

ومن كلماته التي تحزُّ القلبَ وتُوجع الفؤادَ قولُه: (أنْ تجعلَ المسلمين يَفهمون عظمةَ الحضارة الإسلامية أصعبُ مِن أنْ تجعلَ الغربَ يَفهمُها).
رحمه الله وجعله في جنات النعيم، وأَخلف أمثالَه …

 ***       ***    ***     ***    ***    ***    ***

○{{ في رثاء رجل من أهل ” الفضل “}}☆●
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••
.
☆ العلامة التركي البروفيسور الدكتور محمد فؤاد سزكين (1924 – 2018) ؛ الموثق الموسوعي ، مؤلف موسوعة “( تاريخ التراث العربي الإسلامي)” باللغة الألمانية ، وكان قد استهل عمله فيها بضلاعة وعبقرية وشمول سنة ” 1947 ” ، وهو المدير الفخري لمعهد “( دراسات التاريخ والعلوم الإسلامية والعربية )” في ألمانيا ، وأحد مؤسسيه ، ومن مؤلفاته بعد ” الموسوعة ” : “( تاريخ الأدب العربي بين سنتي : “1967 و 2007” – 12 جزءً )” ، وقد توفي في الأمس في أحد مشافي إستنبول ، و تمت الصلاة على جنازته في يومنا هذا : ( الأحد – 1 / تموز / 2018 ) في “( جامع محمد الفاتح )” ؛ بحضور رئيس الدولة الذي شارك في حمل جنازته ، وقد سبق أن افتحت له ” مكتبة ” في متحف حديقة “( جول خانة )” المطلة على مضيق البسفور وبحر مرمرة ، وتم دفنه في المكان نفسه ؛ بوصية منه – كما قرأت ، وستعمل حكومة وطنه على استرداد سائر تراثه الباقي من ” ألمانيا ” ، وإعادة طبع المطبوع والمخطوط من ” آثاره ” ، رحمه الله – تعالى ، وجزاه خيراً .
••••••••••••••••••••••••••••••••
ما كُنتُ أعرفُه .. بلْ كنتُ أعرفُهُ
وكيفَ يجهلُ مثْلي مثلَهُ رجُلا

فخْماً على سُننِ الماضينَ أنشأهُ
ربُّ البريَّةِ .. كي يُعطي به مثَلا

كأنَّهُ جبلٌ في العلمَ .. بلْ مطــــرٌ
في الفكرِ يجمعُ كل الأرضِ إنْ نزلا

قيلَ : ” التُّراثُ ” فأضْحى وهو خادمهُ
وقد تأني .. لتُمسي الغايةُ الأجلا

ما أحسبُ الدهرَ ينْسى أن هاجسَهُ
قد كانَ بالدينِ من مصباحِه اشْتعلا

فصارَ مشكاةَ نورٍ من جلالتِها
ضوءُ التآليفِ تبُقي ذكرَهُ الجَلَلا

حاجي خليفةُ و الماضونَ أجمعُهمْ
في أيِّ علمٍ وفنٍّ أوصَلوا النُقَلا

فكانَ جمَّاعةَ التصنيفِ باحثَهُ
ما ندَّ عنهُ كثيرٌ لم يكنْ وصَلا

هذي وجازةُ حُزنٍ فوقَ ترْبتهِ
لو كنتُ أكتبُها في الطينِ لاقتبَلا

وقال : يعرفُ قدْري أيَّ معرفةٍ
وهو الغريبُ .. ولكنْ وجدُهُ اعتمَلا

أعطى من القلبِ هذا القولَ من ألمٍ
كأنَّني من بقايا أهلِهِ الأُصَلا

فقلتُ : يصدقُ .. إن العلمَ آصرةٌ
وقبلَه الدينُ والفضلُ الذي اكتمَلا

لو لم يكنْ فضلُه في عصرَنا جرساً
قد دُقَّ فينا لما كانَ الذي حصَلا

وقالَ : كانَ غريباً عن ولايتِهِ
خمسينَ مشحونةً من عمرِهِ عمَلا

وجاء بالسِّفْرِ لم يتركُ مُورَّثةً
إلّا و سجّلها في السِّفرِ ما خجِلا

وقالَ : هذا تراثٌ عنْ أوائلِكم
لا تعلمونَ عنائي حينَما اشتُغِلا

لو عُصبةٌ ضَنِيتْ .. لكنَّني رجلٌ
بي قوةٌ من رجاءٍ قطُّ ما انفتَلا

ولستُ أطلبُ منكُمْ أيَّ منتفَلٍ
فعندَ ربيَ ألْقى الأجرَ والنفَلا

يكفي الدعاءُ .. وما تكفيْ خزائنُكمْ
ولستُ أطلبُ منها الزادَ والحُللا

هناكمُ الزادُ .. أرْضوني بألسنةٍ
تقولُ : كانَ وأعَطى ثمَّةَ ارتحَلا

أعطى الكثيرَ ولم يأخذْ سوى كفنٍ
للهِ ما كان َ لما قامَ وانتقَلا
••••••••••••••••••••••••••••••••••

***    ***    ***    ***    ***

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حين يحمل الحاكم جثمان العالم فاعلم أنه حاكم يقود أمته نحو النور … الرحمة على عالم التراث العربي والإسلامي، العلامة التركي الالماني فؤاد سزكين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.