قراءة لـ (ق ق ج ) ” ترنيمة ناي ” للقاصّ كمال محمود أبو الحسن – مصر

   كمال محمود أبو الحسن الشاذلي

حين تختلّ الموازينُ الاجتماعية، و تتضعضعُ العدالة والمُساواة، و يشيعُ بين النّاس التّفاوت الطّبقي بكل بشاعة، وتمسي السّيادة للمَحظوظين، ممن واتتهم الفرصُ السّانحة،أو العلاقات المُختلفة …ويصبحُ الضياعُ والتّشرّد و اللامبالاة… لمن خلقوا في الفقر، ولازمهم حتّى الوفاة. تلك الصّورة المرضية التي لا تخلوا منها المُجتمعات العربية والدّول و بخاصّة منها المُتخلفة أو التي يخادعونها بأنّها سائرة في طريق النّمو، ولا نمو. فلا نعجب أنّها تفرز ظواهر اجتماعية لافتة..
فنص ” ترنيمة ناي” للقاص كمال محمود أبو الحسن من مصر. يجعل المتلقي أمام الأمر الواقع. كصورة مجملة لمجتمع يتنكّر لذاته، و يستهجن وضعاً هو مَصدرهُ و مُنتجه، و كأنّه يتبرّأ من نفسهِ…
النص:
ترنيمة ناي
[highlight]بِبَسْمةٍ شاحِبةٍ، رَفعَ عَقِيرَته بالغِناء…، اِسْتَهْجَنَ المَارَّةُ بَشاعةَ المَنْظر(جسدٌ مصلوبٌ ولسانٌ يَتدلَّى)، خبَّأوا عيونَ أطفالِهم، سَدُّوا آذانهم؛ صَرَخَ ظِلُّهُ فيهم: “أنا مِرْآةُ أحْلامِكم”!…، اِنْهَمرَتْ القذائفُ وانْهَالتْ الّلعنات؛ هَمَسَتْ شفتاهُ النَّازفتانِ :”ونُشُورُكم أيضًا”!!.[/highlight]

العنوان : ” ترنمة ناي ” جملة اسمية من مبتدأ محذوف تقديره (هذه)، ترنيمة خبر و هو مضاف،” ناي” : مضاف إليه .
لغوياً : التّرنيمة ، تطريب الصّوت و ذلك بالتّرجيع لمقطع ما. وفي الحديث :” ما أَذِنَ الله لشيء أَذَنَه لنبيّ حُسن التَّرَنُّمِ بالقرآن. و من الحيوان ما يترنم، كالجندب، والحمام والمكاء.. و منه أيضاً: صوت العود، أو النَّاي …
النّاي الذي هو: آلة من آلات الطّرب، على شكل أنبوبة بجانبها ثقوب ، تطرب بالنّفخ وتحريك الأصابع على الثّقوب، وتعرَفُ أيضاً باليرَاع المثقَّب.

النّص، و يتكون من ست مشاهد متتالية:

1 ــ [بِبَسْمةٍ شاحِبةٍ، رَفعَ عَقِيرَته بالغِناء…] وصف لشخصية النّص، بابتسامة لا كالبسمات، شاحبة، لا تنمّ عن غبطة و مَسرة ،بل تكتنز إحساساً دفيناً من المرارة و التّعاسة، و ليس من وراء الشّحوب إلا ما يدل على خريفية الأشياء و ذبولها، و ضعفها و تلاشيها…و مع ذلك تصدح الشّخصية بالغناء، وكأنّها تلتمس فيه السّند والدّعم لتحمل وعثاء رحلة الشّقاء الطويلة، التي أنهكتها ، و لم تبقيها إلا هذا التّرديد الحزين، تنفت من خلاله بعضا من دخان حرائقها المتأجّجة، و غصصها الدّفينة …

2 ــ [اِسْتَهْجَنَ المَارَّةُ بَشاعةَ المَنْظر(جسدٌ مصلوبٌ ولسانٌ يَتدلَّى)]لقد تأكد الإحساس السّابق، أنّ شخصية النّص تعاني.من قسوة خارجية: يستهجنه و يشمئز منه المارة من منظره البشع: (جسدٌ مصلوبٌ ولسانٌ يَتدلَّى) و قسوة داخلية لإحساسه بالضّعف و الهوان، و عدم القدرة على تغيير وضعه، و اكتساب مكانته، و إحساسه بالتّهميش و الضّياع… كلّ ذلك كان ألماً فظيعاً… يداريه بالغناء، و التّرنم بأيّ كلام…

3 ـ [خبَّأوا عيونَ أطفالِهم، سَدُّوا آذانهم؛ ] بالغ المارة في القسوة، و حاولوا تجنيب أطفالهم منظر الرّجل، و سدوا أذانهم حتى لا ينتهي إليهم صوته. و كلّ ذلك أثّر في نفسه بالغ الأثر. ربّما كان يرغب في أن يقول شيئاً ليدافع عن نفسه، فلم يجد إلا التّرنّم بالغناء…

4 ــ [صَرَخَ ظِلُّهُ فيهم: “أنا مِرْآةُ أحْلامِكم”!] و ما دام الغناء لا يُجدي، و النّفور منه مُحتدم، و الأبصار مُخبأة، و الآذان مَسدودة، كان لا بدّ من ردّ فعلٍ، جاء على لسان ظله:
إن كنتم تنفرون، و لا تأبهون بحالي، و ما أنا عليه، فما أنا إلا المرآة التي تعكس أحلامكم، و رغباتكم، و مُتمنياتكم… حالتي هذه هي انعكاس أحلامكم…

5 ــ [اِنْهَمرَتْ القذائفُ وانْهَالتْ الّلعنات] و كما هو الأمر دئماً. المُستكبرون لا يرضون بالحقيقة، و بخاصّة إنْ كانت من الضّعيف، لهذا انهالوا عليه بكلّ ما طالته أيديهم، و أشبعوه سبّاً و شتماً بأقذع الألفاظ ، و نابي القول …

6 ــ [هَمَسَتْ شفتاهُ النَّازفتانِ :”ونُشُورُكم أيضًا”!!.] و انقلب الصّوت الصارخ همساً من جرّاء ما ناله من الظلم و الاستكبار من طرف الآخرين..و استمرّ همس شفتيه النّازفتين .. و كأنه يواسي نفسه بصوت خفي: حالتي هي حالتكم حتى يوم القيامة. لا مناص لكم مما أنا فيه. فأنتم سبب ما أعانيه…

النص، يعتمد العلاقة التضادية (L’oxymore) يجمع بين النقيضين الضّعف و الاستكبار. المظلوم و الظالم. كرمز لما في المجتمع من تناقضات و تضاد ، اجتماعي/طبقي.
حقاً ،درجة المعالجة، و التّعامل القصصيّ، لم تصل لخلق صراع متبادل، لربما لعدم تكافؤ الطرفين، و إنّما اكتفت بما هو في الموروث الثّقافي و الدّيني بخاصّة، بأنّ حقّ الضّعفاء لن يضيع، و جزاء المُستكبرين سيكون في الدّنيا [“أنا مِرْآةُ أحْلامِكم”!] و في الآخرة أيضأ [“ونُشُورُكم أيضًا”] لا شك أنّ كلاماً كهذا، يعيه العقلُ المؤمن ــ و لا خلاف ــ و لكن ما مدى تأثيره في المُستكبرين الذين لا يرون إلاّ أنفسَهم في المجتمع كطبقة، دونها كلّ الطبقات، و بخاصّة الضّعيفة؟
أرى أنّ القاص حين وضع هذا التّصورالقصصيّ، وضع المُتلقي في أتون نقاشٍ ما فتئ يخبو ليشتعلَ من جديدٍ و منذ السّتينيات من القرن الماضي بعد نكسة 1967 اذ استفاق العرب على حقائق ما كانت لتطفو على السّطح لولا زلزلة النّكسة. التي كشفت الوهم الكلامي، و الوعود الخطابية، والتّفاوت والصّراع الطّبقي، و تجارة الرّبح السّريع على حسابِ المواطن والوطن.
فالنص يضع المتلقي بين صورتين متناقضتين:
صورة المواطن المَغلوب على أمره، لدرجة الجنون و البَلاهة .
و صورة المواطن الذي لا يطيق الأخر لدَرجة الشّتم و الرّمي بالقذائف.
واللافت في الأمر، أنّ المظلوم و إن صرخَ ظّلّه : ” أنا مرآة أحلامكم ” تأثراً بالظّلم الذي لحقه، و القهر و الاستبداد الذي يعاني منه … سرعان ما استحال صُراخ ظّلّه إلى هَمَس لشفتيه النَّازفتينِ :”ونُشُورُكم أيضًا”!!. فاسْتحالة الصّراخ إلى همس. هي الدّلالة الرّمزية التي يعيشها المواطن العربي في ظلّ قهر مُتسلطٍ، جاثمٍ، مُستبد .
فالنّص إذاً، يدخل في إطار تصوير الحالة/ الوضعية . و يترك المجال فسيحاً لفكر وخيال المُتلقي. بمعنى لا يقترح حلاً بديلاً، و لا يستنهضُ الهِممَ و العزائم مباشرة، و لا يدعو جهاراً لثورة… و لكن يترك كلّ ذلك لما يثيرهُ الوضعُ الشّقيّ للمواطن العربي، في ذهنية المتلقي. و في ذلك احترام لذكائه و نباهته. و إعراضاً عن المُباشرة و التّقريرية (Dénotation)…
قد يفسَّرُ هذا بالسّلبية،و أنّ البطل سلبيّ حتّى النّخاع: ( منَ الصّراخ إلى الهَمس )، قد تكون رؤية نقدية مشروعة. و لكن أليس واقع الحال هو ما جاء به النّص؟ أليس المُواطن العربي قد عانق الجنون ــ من هول القمع والاستبداد، و السّياسات الأمنية، و التّقشفية، و التّجهيلية ــ فرمي بنفسه في بحر المجهول ينشد حياة أخرى، في بلد آخرغير وطنه العربي؟
إنّ النّص بتصويره للوضع بآلية رمزية، تلميحية، محايدة، إنّما يثير وعياً ذاتياً موضوعياً… تجلّت معالمه في الثورات السّابقة،و عي يدل بأنّه كائن و موجود، و لا يُمكن لنزق الاستبداد أن يُخمد شعلته. أواستشرافه، و تطلعاته…

فنّيــاً :
1 ــ استعان النّص بالوصف (Description) ، و هي خاصية سردية غالباً ما يتجاهلها كتاب الق الق جداً، تذرعاً بالإيجاز، و الاختزال، و لكن هنا نلاحظ أنّ الوصف المقتضب ساعد على توضيح الفكرة و بنائها:[بِبَسْمةٍ شاحِبةٍ ]،[اِسْتَهْجَنَ المَارَّةُ بَشاعةَ المَنْظر]،[جسدٌ مصلوبٌ ولسانٌ يَتدلَّى]، [هَمَسَتْ شفتاهُ النَّازفتانِ].

2 ــ أسلوب التّخفي (La dissimulation) فبطل النّص رغم الوصف، ظلّ مجهولاً خفياً : لا اسم، ولاهوية، و لا انْتماء… كلّ ما عُرفَ عنه أنّه شخص بمنظر بشع. و في ذلك إثارة للتّخييل، و فرصة للتّأويل، كما نلاحظ اختفاء الزّمان والمكان بصورة مُحدّدة و واضحة. و إن أمْكن بفضل ما أتاحه النّصّ من إشارات و خطاب إيمائي ..تقدير الزّمان أن يكونَ نهاراً و قد يكون مساءً، كما أنّ المكانَ قد يكون خاصاً أو عاماً، مادام هناك مارّة.

3 ــ توظيف الجمل القصيرة، وهذا من خصائص هذا الجنس الوامض اللمّاح، فالجمل جاءت مقتضبة، متسارعة،لاهتة، متتالية…في خدمة المفارقة وانتهاء إلى الخرجة:[بِبَسْمةٍ شاحِبةٍ] ، [رَفعَ عَقِيرَته بالغِناء]، [خبَّأوا عيونَ أطفالِهم] ،[ سَدُّوا آذانهم] ؛[ اِنْهَمرَتْ القذائفُ] و[انْهَالتْ الّلعنات]..

4 ــ الظّلال الدّلالة (connotation) ونجدها في الوصف [ جسدٌ مصلوبٌ ولسانٌ يَتدلَّى]
صورة إنسان يعاني جسدياً و نفسياً، و لا من يَهتمّ بوضعه، و ما هو عليه .
كما نجدها في صرخة الظل : [أنا مِرْآةُ أحْلامِكم] المرآة عاكسة،و لا يمكن أن تعكس إلا ما يُقابلها وشخصية النّص/المرآة، يقابلها الآخر الجاحد المُستكبر في الحياة. كما نجدها في همس الشّفتين [ونُشورُكم أيضًا]أي بمعنى أنّ صورة الآخر لن تتغير حتّى يوم القيامة. و كلّ هذا يندرج في إطار لغة الإيحالة…

5 ــ التّبئير (Focalisation) و نعني به التّقنية المستخدمة لحكي القصّة المتخيلة، أي موقع السّارد من عملية القص و علاقته بالشّخصية الحكائية. فلا شكّ أنّ السّارد لازم جانب الحياد. وركّز بشكل أساس على عرض الحالتين المُتناقضتين، دون وجهة نظر خاصة، أو تعاطف ما … تاركا للمتلقي،حرّية اختيار القرار المناسب. و هذا أمر إيجابي و بليغ…

فهنيئاً للأستاذ كمال محمود أبو الحسن على هذا النّص القصصي، المُشبع بالمجاز والإيحاء والذي نجح في تصوير وضع اللّحظة الرّاهنة بحياد وفنّية، وأثار في النّفس إحساساً بضرورة التّغيير، و إبقاء فتيلة الوعي مُشتعلة و إلى الأبد …

تحياتي مسلك

لا يتوفر نص بديل تلقائي.

6 thoughts on “قراءة لـ (ق ق ج ) ” ترنيمة ناي ” للقاصّ كمال محمود أبو الحسن – مصر

  1. وافر شكري وتقديري د.مسلك على هذه القراءة الوافية الماتعة…دمتم متألقين
    كمال محمود – مصر

  2. مساء الورد
    دراسة وافية ورائعة لنث متزن وقوي في جميع دلالاته.
    والقارئ لن تجذبه اللغة التي استخدمها الكاتب ببراعة، فحسب، بل سيلمس بمتعة جارفة صورا أخاذة ناصعة الألوان
    تحية للكاتب والف للأستاذ الخلوق والمعطاء الأستاذ مسلك ميمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.