مفصل من مفاصل كتابي [ القصة القصيرة جداً/ الريادة العراقية ] الصادر عن دار غيداء في عمان بالمملكة الأردنية الهاشمية عام 2016، يتحدث فيه عن الريادة التاريخية العراقية والعربية لجنس القصة القصيرة جداً متمثلة بالقاص العراقي نوئيل رسام.
ويسرني أن أنشر مع الموضوع صورة نادرة لرسام بعثها لي بناء على طلبي نجله الأستاذ الفاضل غسان رسام.
*******
نوئيل رسام
قاص عراقي ينتمي إلى العقد الذي تلا محمود أحمد السيد رائد القصة العراقية الحديثة، لم تشر الدراسات التي تناولت رحلة القصة العراقية إلى تميزه بل ورد اسمه عرضاً عند أرشفة القصة العراقية المعاصرة حين أشار الدكتور عبدالإله أحمد في كتابه (نشأة القصة وتطورها في العراق 1908-1939)، وكما يلي:
(( نوئيل…
– اليتيم ـ الزمان (بدل البلاد) العدد 275 السنة 1ـ 7 ت1/ 1931
نوئيل رسام
– الأخوان أو شهيد الواجب ـ البلاد ـ العدد 174ـ السنة 1ـ6 حزيران/ 1930
– موت الفقير ـ البلاد ـ العدد 182 ـ السنة 1ـ16 حزيران/ 1930))
حاله حال الكثير من قصاصي تلك الحقبة الذين سجلوا لأنفسهم شرف الإنوجاد في هذا السفر الإبداعي، وجلّ الكتب التي رصدت وتناولت مسيرة القصة العراقية لم تشر ولو بتلميح بسيط إلى مساهمته في نقل القصة العراقية إلى مديات فنية متقدمة في عقدي العشرينات والثلاثينات.
بيد أن لنوئيل رسام شأن آخر، نباهي ونتباهى به، وهو ريادته التاريخية لفن جديد لم يكن مستنبطاً كمصطلح عراقياً وعربياً، ذلكم هو ًمصطلح “القصة القصيرة جداً”، وهذا الأمر مؤكد ومثبت ولا يمكن أن يُخبأ بالغربال مثلما يفعل الكثير من الدارسين العرب، إن كانت بحوثاً أو رسائل ماجستير أو أطاريح دكتوراه، أو قراءات تاريخية أرشيفية أو دراسات نقدية، فلرسام الريادة التاريخية وبجدارة وهو بحق يعد الرائد الحقيقي للقصة العربية القصيرة جداً، ودليلنا على ذلك قصصه الثلاث التي نشر الأولى عام 1930 في جريدة (البلاد)، والثانية عام في جريدة الزمان (بدل البلاد) عام 1931، مثبتاً على الثالثة المصطلح الصريح “قصة قصيرة جداً”، فإن كانت ساروت قد نشرت نصها رقم 2 عام 1932 دون أن تضع التسمية بل أسمته (اجتياحات) بحسب ترجمة نهاد التكرلي، وإن كان أو هنري وأدغار ألن بو، وأرنست همنغواي،…….. الخ، لم يثبتوا المصطلح بل نشروا قصصهم القصار جداً تحت مصطلح القصة الاعتيادية، وإن كان جبران خليل جبران قد كتبها فإنه أيضاً لم يجنسها، وبناء على هذا يعد نوئيل رسام الرائد الحقيقي للقصة العربية القصيرة جداً، وأكون منطقياً إن ثبتُّ الريادة العالمية الثانية باجتراح المصطلح بعد أرنست همنغواي.
وللأسف حاولت وبجهد استثنائي امتد لأكثر من عشر سنين أن أعثر على القصة التي نشرت تحت يافطة المصطلح، وأصبت بنفس ما أصاب الأستاذ الناقد باسم عبدالحميد حمودي من خيبة في عدم العثور عليها، ولحمودي الفضل الكبير في إماطة لثام النسيان والإهمال عن هذا القاص وعن محاولته الفذة، في دراسته النقدية الضافية المنشورة في مجلة (الأقلام) العراقية في عددها المزدوج الصادر خريف عام 1988 والخاص بالقصة العراقية، وتوّج دراسته بنشر قصتي رسام الموسومتين (موت فقير) و (اليتيم)، وأتشرف بنشرهما في كتابي هذا.
وإذا أخضعنا قصتيه الآنفتين إلى أسانيد وبنى القصة القصيرة جداً التي تنماز بها عن رديفتها القصة القصيرة وتتمثل بالعديد من الخصال أبرزها الإيجاز والإيحاء والقفلة، نلمحها بوضوح في قصتيه، فضلا عن توافر الوحدات الأرسطية “الزمان، المكان، الحدث”، ففي (موت فقير) ثمة شخصية جلية هي الطفل المحتضر والأم، وفي (اليتيم) هناك الصبي والأم المتوفاة، والمكان متواجد في القصتين وتتمثل بالغرفة في القصة الأولى، والحقل في الثانية، والحدث يتمثل في القصتين بالموت. ففي الأولى يموت الطفل وتثكل الأم، وفي الثانية تموت الأم ويتيتم الصبي.
وتأسيساً على هذا وبتوافر العناصر الأساسية لهذا الجنس السردي وبهاتين القصتين والتي لا نشك في توافر نفس العناصر في القصة المفقودة يمكننا أن نبشر بالقاص نوئيل رسام رائداً للقصة العراقية والعربية القصيرة جداً.
القصة الأولى :
موت الفقير
… وبعد أن نظر إلى شعاع الشمس الداخل إلى الغرفة المظلمة من كوة صغيرة في أعلاها وحدق فيه مليا دمدم ببعض الكلمات ثم ابتسم ثم نام. فتح الباب بهدوء تام ودخلت الأم ناكثة شعرها سابحة بدموعها تحبس حسراتها خوفا من إزعاج المريض.
تقدمت من الفراش وركعت جهة الرأس وكان قد تحول عن موضعه فرفعته وأعادته إليه باطمئنان.
مدت يدها ورفعت الغطاء عن وجهه فبانت لها آثار ابتسامة بادية على محياه الهزيل… انحنت وقبلته في جبينه وبعد أن أزالت بسكون ما سقطت عليه من دموعها لم تشأ أن تعكّر على النائم أحلامه الهادئة فرفعت نظرها إلى أعلى وغرقت في صلاتها.
حوّل الشعاع مساره وأصاب وجه المريض فأضاءه، وما هي إلا فترة إذ بدت حركة خفيفة من ذلك الجسد الناحل سمع على أثرها لفراش القش صوت أعقبه.
– أماه يا أماه
انتبهت كالمذعورة :
– عزيزي… ها أندا يا بني
ثم انعطفت وطوقته بيديها.. رفعت الشعر الذهبي عن جبينه وقبلته، فتح عينيه الشاحبتين والتفت إلى أمه : أمي.. أنظري. هو ذا أخي قد جاء.. إنه يستدعيني هو يفتح لي ذراعيه.. ها أنا ذا خذني معك.
أغمض عينيه
إظلمت الغرفة
فقد أسلم الروح
القصة الثانية :
اليتيم
.. وعند الفجر وقد تبدد ظلام الليل بأشعة الشروق نهض الصبي واقترب من أمه وفكر في إيقاظها ولكنه عدل واكتفى بقبلة اختطفها من جبينها وأسرع قافزا إلى الحقل المجاور ليلاعب الطبيعة كعادته.
وكان الوقت ربيعاً وقد اكتست الأرض حلتها الخضراء وقد نقشت بأنواع الأزهار ذات الأنواع الجذابة والروائح العطرية وكان الصبي يزيد المنظر بهجة وهو يقفز هنا وهناك يلاحق الفراش المتنقل من زهرة إلى أخرى فإذا ما ظفر بإحداها طار فرحا وأرسل مع النسيم قهقهة يحملها إلى حيث يشاء ثم يجلس على الحشيش الأخضر ويأخذ في مداعبة فراشته إلى أن تفلت منه فيقطب ويلاحق غيرها، وبعد أن ارتفعت الشمس عن الأفق وجفت قطرات الندى عن الأزهار انتبه الصبي إلى نفسه فيقتطف بنفسجة كبيرة وينعطف راكضا إلى البيت ليقدمها إلى أمه التي لا بد وأن تكون قد انتهت من حلب البقرة، ولكن هيهات فهي لم تزل نائمة.
ولما وصل تقدم منها وأدنى زهرة من وجهها علّها تستيقظ باستنشاق عبيرها ولما لم تفعل جلس في حضنها وصاح:
– انهضي يا ماما فلقد ارتفعت الشمس والبقرة لم تذهب إلى المرعى بعد.
ثم دمدم:
– إن ماما في سبات عميق.
ووضع البنفسجة في يدها وخرج بعد أن أوصد الباب أما الأم فلم تستيقظ أبداً.
أما الصبي فكان يتردد دائما ناظرا إلى أمه من شقوق الباب ولكن لم يجل بخاطره قط أنه أصبح يتيماً .
الموصل – نوئيل رسام