حوار مع الكاتبة د مروة كريديه

د مروة كريديه

عطالة المنطق ورهانات الفكر

فتوحات المعرفة و صناعة الخراب –

حوار مع د. مروة كريدية

تطل الباحثة مروة كريدية الى الفكر بحدس كوني وتحاول ان تقدم رؤيا مغايرة للفكر عبر رؤية مغايرة للواقع ، اذ ما انفكت عبر طروحاتها تزحزح جدار المفاهيم السائدة عبر تفكيك الاسس البنويوية للمنطق السائد الذي يولد الظواهر المسببة للعنف. وتعتبر ان سيادة المنطق القائم على عدم تلاقي “الأضداد”، المبني على مبدأ “عدم التناقض” ، أسَرَ الفكر البشري في نفق الحتميات والاحكام المطلقة، و حشر التفكير في زاوية “الثنائيات الضدّية” وقسَّمَ الأمور الى “قطبية” حادَّةٍ ناجمةٍ عن تفكير “خطّي” ذو بُعدٍ واحد . وترى ان البشرية اليوم عاجزة عن حل مشكلاتها بالادوات الفكرية القديمة واننا مقبلون على مرحلة تطورية جديدة تؤدي الى تحول فكري كبير، مرحلة منبنية على “الفيزياء الكوانتية” التي بمقدورها ان تقدم قراءة مغايرة لعلاقات الكائنات بالكون.

التقيناها اثر محاضرة فكرية لها نظمها مركز المسبار للدراسات والبحوث حيث دار الحوار حول دور المنطق في تطويرالبُنَى الفلسفيّة المؤسِّسَة للفكر الانساني.

o يبدو للقارئ ان الأزمات المجتمعية بعيدة عن الاسس الفلسفية ، فيما نجدك دوما تربطين بينهما ، كيف لنا ان نشرح ذلك ؟

ان عملية قراءة اي ظاهرة مجتمعية او انسانية وتحليلها ، دون العودة الى المرتكزات الاساسية المنبنية في الوعي او اللاوعي الانساني ، من شأنه الا يقدم حلولا جذرية ، لانه في تلك الحالة تكون قراءة منقوصة او ربما تعتمد على نفس المرتكزات التي من شأنها إعادة انتاج “الأزمة ” او “الحالة ” سواءً كانت ايجابية ام سلبية ، ان تفاقم الأزمات لهو نتاج “المنطق” الذي سيطر على الحضارة البشرية قرونا طوال. فعملية فهم الواقع لا يمكن أن تكون بمعزل عن فَهم البُنَى الفلسفيّة المؤسِّسَة للفكر الانساني.

o غير ان الناس عموما تلجأ الى الحلول السريعة المتوفرة لديها لا سيما ان كانت سياسية او اقتصادية ، كيف يمكن توصيف ذلك من خلال الرقي بالوعي ؟

ان سبر “الظَواهر” التي تَطفو في المُجتمعات الانسانية بما فيها “السياسية” و”الاقتصادية ” وغيرها؛ تُظهِرُ انَّ الأحداث اليومية ليست إلا صورًا متنوعة لانعكاسات الفكر الذي يكتَنِزُ قدرًا لا يُستهان به من “العنف”، الأمر الذي يجعلنا نتساءل جديًّا حول جدوى توصيف هذه الاحداث وقرائتها وحتى تحليلها، دون التعرّض إلى بيت الدَّاء وهو “البنى المُؤسِّسَة للفكر .

o هذا “الداء” الذي تصفينه يتجاوز نقد الثقافات او الأديان ربما فيما نجد ان المفكرين غالبا يلجؤون الى نقد “ثقافة معينة ” اوفكر ما بعينه بوصفه مولد للعنف ، كيف لنا ان نبين هذا النتاج “الحضاري ” المشترك الذي اسس العنف؟

ليس ثمة “موقعٍ” يستطيع الانسان من خلاله اطلاق الأحكام على “الآخرين”، فالاصطفائية نرجسية وداء تصيب بعض المثقفين الذين يرمون بسهام انتقاداتهم على ظواهر معينة ، فيما يكونون انفسهم متورطين بطريقة المنطق عينها ولكن بلبوس مختلف .

ان النتاج المولد للعنف لا يمكن ان “نلصقه ” بطرف ما فيما “المنطق ” نفسه عقيم اقصائي . فلم يعد مفيدا ادارة العالم بالتشبيح “الليبرالي” او بالتشبيح ” المقاوم ” او “المحافظ ” … حيث يكون المرء في نقطة ما يدعي “الصلاح والنبل لنفسه ” وينزعه في الوقت عينه عن غيره ممن لا يكونون بصفه!

o تقولين ان صناعة الخراب ليست وليدة الحالة الثقافية في الآنة الراهنة بل صنيعة حالة فكرية ساهمت فيها العقول المفخخة التي اتخذت من المسلمات الأيديولوجية أداة لشرعنة القتل، كيف يمكن ترجمة السلام من وجهة نظرك ؟

ان الواقف على سيرورة الاحداث يجد ان تأثير التاريخ البشري كان شديدا و قويًّا في اتجاهين متعاكسين في دوامة من العنف والعنف المضاد دون ان يُحدث “توبة حضارية” او يقدم رؤية ثالثة مغايرة لمستوى واقع ثالث،أليس من الغريب اننا لا زلنا ككائنات بشرية نقتل بعضنا بعضا فيما الحروب تزداد ضراوة وبشاعة دون ان نصل الى مرحلة من الوعي تعلو فوق كل مسوغات العنف…

أليس من المؤسف ان نرى الواقع الدموي متكرر تكرار من لم يعتبر من مأساة الأحداث، فخلال قرن شهد على حروب عالمية وحروب لا متناهية في مناطق عدة من العالم لازالت الحروب مستمرة حتى وكأن الكائن الانسان لم ينظر في أحوال الأولين ولم يتبصّر في مآلات الأقوام السابقة ، فالدمار الذي خلفته الحروب على مرّ العصور لم يوقفها الاعتبار من احوال السابقين بقدر ما زاد من حدتها ، بعد ان طور الكائن الذي يتغنى بأنه “إنسان” اساليب القتل والتدمير والاستعباد. فالاسلحة التي تحملها الأرض كفيلة بتدميرها عدة مرات هذا عدا الأسلحة البيولوجية والكيماوية وغيرها من التقنيات التي تشي بما لا يدع مجالا للشك ان استخدامها كارثة اخلاقية وكونية.

o ما هي طريق الخروج من هذا العنف اذن ؟

لعل أولى خطوات الخروج من الأزمة تكون بالخروج من دائرة المنطق السائد المنتج لكافة أشكال التشبيح، اننا كبشر علينا ان نتوقف عن ممارسة “نرجسيتنا ” بشكل يسمح لنا التحكم والاضرار بالكون والكائنات الاخرى

ان النتاج الفكري الذي نرى مفاعيله “العنفية” يقوم على محاور قيمية من اهمها اختزال الكون الى منظومة ميكانيكية مؤلفة من مكونات اولية ، واعتبار “العلم الوضعي” الطريق الأوحد الى المعرفة، والنظر الى الكائنات الحية والتعاطي معها كآلات، واعتبارالحياة المجتمعية صراعا تنافسيا البقاء فيه للأقوى .

o هل تتوقعين تطورا فكريا نوعيا في المدى القريب ينعكس في الظواهر المجتمعية ؟

ان المخاضات المولدة للفكر الجديد المنبني على معاني متجددة هو بحد ذاته بعد عميق في تغيير البنية الفكرية لدى الإنسان. ربما قد نكون فعلا مقبلين على مرحلة تطورية جديدة تؤدي الى تحول فكري كبير، لكن علينا ألا نتوقع ان نراه خلال عقود قليلة .

ان بزوغ الثورة الكوانتية في الفيزياء والثورة المعلوماتية في الفضاء السيبيري تكون البشرية قد نحت منحى تطوريا في البناء المعرفي ، بيد ان المنطق لازال اسير فلسفة “القرون الوسطى ” .

o لنوضح للقارئ؛ كيف لنا ان نربط تطور المعرفة بتطور المنطق والفلسفة؟

بعبارة مبسطة يمكن القول ان المنطق الكلاسيكي السائد هو نتاج أفرزه العقل اليوناني وفيما بعد استمثرها العقل الغربي المسيحي ومن ثم العقل العربي والاسلامي وانتج: الحتمية ، السببية، الجدلية ، الثنائيات ، المادة والصورة…

إن سيادة المنطق الآنف الذكر القائم على عدم تلاقي “الأضداد”، المبني على مبدأ “عدم التناقض” ، بحيث لا يمكن ان يجتمع الشيئ وضده ، أسَرَ الفكر البشري وأدخله في نفق الحتميات والاحكام المطلقة، و حشر التفكير في زاوية “الثنائيات الضدّية” وقسَّمَ الأمور الى “قطبية” حادَّةٍ ناجمةٍ عن تفكير “خطّي” ذو بُعدٍ واحد سببّه المنطق الأرسطي.

وتولَّد عند هذا المنطق التي تبنّته المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية واعتمدته الايديولوجيات بالدرجة الاولى، النظرة الاقصائية وسائر اشكال العنف …

o وما علاقة “المنطق ” ذلك بالفيزياء الكلاسيكية ؟

لقد اسست الفيزياء الكلاسيكية لمفهوم “القوى والقوى المضادة “، والفعل وردود الفعل …باعتمادها على السببية “المكانية او المحلية” القائمة على فكرة “الاتصالية” ، وقد نتج عن ذلك اضفاء الصفة “الحتمية” على تاريخية الافكار.

وهذا المنطق “العنيف” جعل الطبيعة خاضعةً لقوانين الفيزياء الكلاسيكية، وبالتالي تكون عبارة عن مركّبٍ قابل لإخضاعات المنطق الرياضي.

o كيف اذن يمكن ان نطور “منطقنا ” ان خرجنا عن الفيزياء الكلاسيكية التي تحكم على الاقل “واقعنا الأرضي ” ؟

فيزيائيو هذا العصر وامام تجاربهم المعمقة في مراقبة الذرة احتاروا في المراحل الاولى لتجاربهم اذ كيف بالإمكان أن يكون الشعاع الكهرومغناطيسي مؤلفًا، في الوقت نفسه، من جزيئات -أي كيانات متواجدة في حجم صغير جدًا- ومن أمواج -منتشرة في فضاء واسع جدًا-. حيث اظهرت التحليل العميق لعملية المراقبة أنْ لا معنى للجسيمات تحت الذرِّية ككيانات منعزلة، لكنه من الممكن فهمها من خلال العلاقات التي تربط بين التحضير للتجربة وبين ما يلحقها من قياس. وهكذا بيَّنت النظرية الكوانتية الوحدانية الأساسية للكون.

انها طريقة أعادت طرح المفهوم المتعلق بأساس المنظور الميكانيكي للكون – وذلك المتعلق بطبيعة المادة.

o اذن من المفترض ان تولد الفيزياء الكوانتية لنا منطقا مغايرا للمنطق الكلاسيكي ؟

نعم ، عالم الكوانتا ما تحت الذري لا يحمل اكثر من اجزاء عالمنا المدرك، ونحتاج الى فترة كي يتم فهم العالم خارج اطار قانون الجاذبية التي حكمت الفيزياء النيوتنية حيث العلاقات الذرية، ورغم وجود الجاذبية كقوة ضعيفة متبادلة بينها، إلا أن القوة الكهربائية هي محركها الرئيس .

ان التحدي المعرفي الأبرز اليوم الملقى على عاتق المفكرون والفلاسفة هو استخراج اداوت فكرية أخرى منبنية على “الفيزياء الكونتية” بمقدورها ان تقدم قراءة مغايرة لعلاقات الكائنات بالكون ،لا سيما بعد ظهور الكوسمولوجيات الحديثة مما يؤدي الى تغيير جذري في رؤيتنا للعالم لا سيما على صعيد العلوم الانسانية النظرية منها والتطبيقية بعد ظهور “نظرية التشظي ” في العلوم الفلكية واكتشاف سهم الزمن مع المبذأ الثاني للديناميكا الحرارية واللانعكاسية في سير الظواهر.

o ربما انعكاساته على الفكر ومن ثم الوعي تحتاج الى “ثورة فكرية “؟

انه انقلاب انطولوجي حيث سيطوي مرحلة طويلة من المنطق الخطي لان هذه الاكتشافات تزعزع “الحتميات ” بعدما اصبح التزامن والصدف والتخاطر والعشوائية تسيطر على الظواهر الطبيعية ، فيما ينكب الرياضيون للبحث عن سبل و”لوغاريتمات” اخرى للسيطرة على مسار الظاهرة .

o هل سيتغير مفهوم الحقيقة ؟ وما هي اهم المفاهيم التي سيغيرها طرح كهذا ؟

هذه الرؤيا الجديدة تضعنا أمام مفهوم مغايرٍ للحقيقةِ، وتجعلنا نُعيد النَّظر من جديدٍ في مفهوم “كمال الحق” لأن ما تعاملنا معه على أنه “حقائق ثابتة ” ليس الا “متغيرات” تتغير باختلاف مستويات الواقع المتغير الذي تنتمي اليه، وما ثبات الاشياء الظاهرة الى عين تغيرها وتبدلِّها؛ وعندها ستنفتح أبواب الإبداع الانسانيِّ على مِصراعيْهَا بعد أن أغلقَهُ المَنَاطِقة ردحًا منَ الزَّمن، عشنا فيه تحت وطأة عنف الثنائيات الضُدِّيَة .

كما سينعكس ذلك في مفهوم ” الجزء والكلّ” على سبيل المثال، ففيما يكرِّس “المنطق الأرسطي” مبدأ الفصل والتجزُّء، فان النظرية الكوانتية اظهرت الوحدانية الأساسية للكون ، الامر الذي يجعلنا نتوقف جديا امام رؤيا فلسفية حول “وحدة الوجود” كونها تفتح افقًا مغايرًا عبر اتصال “الوحدة والكثرة”، فيكون الوجود نفسه هو سببًا لتعدديةٍ لا متناهية، و علّةً لتفاوت آحاد الماهيات، وانّ للماهيات هويَّات لا محدودة ، وان الاعيان متغيرة وان كانت ثابتة؛ لأنه على الرغم من أنّ للكائنات صورًا “استقلالية” ولها ذاتيتها، غير انّ الفصل بين الواقع المحايث (الموجودات) والواجد، أوقعنا في طريق مسدود ومنطق همّش البعد الأونطولوجي وحدّ من ابداع الكائن الانساني عبر انتزاع البعد الروحي منه.

هذا الفكر ايضًا يجعلنا نَعْبُر اشكالية “التاريخ” والزمان” فنتجاوزها لأن الزمان لا يكون موجودًا إلا لانه “انقضى”!

o ختاما هل تتوقعين لقاء العلم بالحكمة وبزوغ كونية جديدة ؟

لا أتوقع ذلك خلال الاعوام القليلة القادمة …ان ما نطرحه هو مجرد رأي عله يحدث ثغرة في جدار الوعي الانساني ، لان الرؤية الكونية تُلهم الكائن الانساني وترقى به وتضعه على تماس بفضاءات فكرية لا متناهية ،ان عملية لقاء العلم بالحكمة قد تقدم اجوبة عميقة لتساؤلاتنا حول معنى الحياة والمغزى من وجودنا، من خلال نظرة كونية “كليانية” . لأن كلُّ ما في الكون يستمد معناه وقيمته من كلِّيته، وتجزئتُه في آن معا فربما سيستلهم العلماء منبعًا مغايرا يقدمون من خلاله رؤية متجددة وهو ما نجده في عمق ملكة الوعي الكلِّي الأصيلة في النفس الإنسانية وهو ما اشار اليه الحكماء على مر العصور.

***

حاورتها : سهام عبد الرحمن

ونشر في تاريخ ٤ يونيو تموز 2014

مؤسسة الحوار الانساني

.مؤلفات د مروة كريديه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.