د. دريّة كمال فرحات*
أطلق أرنست هيمنغواي سنة 1925 على إحدى قصصه مصطلح القصّة القصيرة جداً، وقد تكوّنت هذه القصّة من ثماني كلمات «حذاء طفل لم يلبس بعد؛ للبيع»، ومنذ هذه العبارة التي أطلقها هيمنغواي والعالم الأدبيّ يتعرّف فنًّا جديدًا، وأي جنس أدبيّ هو ثابت بقوانينه ومكوّناته النّقديّة، بعد أن تتحدّد القواعد المعياريّة له، ومن الطّبيعيّ أنّ تحديد هذا الجنس الأدبيّ يتطلّب وجود قواسم بين العديد من النّصوص، بحسبانها بنيات ثابتة أو متغيّرة.
ومن مسلّمات الحركات الأدبيّة أن تختلف الآراء نحو هذا الجديد، فقد تختلف المواقف منه رفضًا أو قبولًا أو تحفظًّاً. ومع ذلك يمكننا القول إنّ هذا النّوع يُسرع الخطى لتثبيت مكانته، وعلت الأصوات الدّاعية إلى جعل الأوّل من تشرين هو يوم القصّة القصيرة جدًّا، أو القصّة الوجيزة كما ارتأينا في ملتقى الأدب الوجيز.
وقد كان لملتقى الأدب الوجيز مشاركته في هذا اليوم فوجّهنا الدّعوة إلى محبي هذا النّوع لنشر قصصهم عبر صفحة الملتقى على الفيسبوك Facebook ، وكانت المشاركة فعّالة، ولمسنا الاهتمام بهذا المولود اليافع. لكنّ لكلّ تجربة نتائج تقوّمها وتوضّح ما فيها من هفوات وثغرات، وتحتاج إلى التّخلّص من اعوجاجها، وإصلاح ما فيها من خلل.
وعليه فمن المهم تبيان الأركان والثّوابت المعياريّة للقصّة القصيرة جدًّا/ القصّة الوجيزة، وبذلك يمكن تشذيب العمل الذي قمنا به، فمن هذه المعايير هو حجم القصّة القصيرة جداً، فهي تتّخذ حجمًا محدودًا من الكلمات. ويمكن القول هنا إنّ هذا الحجم من المختلف عليه عند النّقاد، فإذا رأى بعضهم أنّها يجب ألّا تتعدى المئة كلمة، فإنّنا في ملتقى الأدب الوجيز رأينا أنّه من الأفضل أن تكون في حدود الإحدى والعشرين كلمة من دون أدوات الرّبط.
ولتحقيق هذا القصر في الحجم من المحبّذ اختيار الجمل ذات الفواصل القصيرة، والجمل البسيطة من حيث البنية التّركيبيّة ذات المحمول الواحد. وعلى كاتب هذا الفنّ أن يعتمد الاقتضاب، فيتجنّب الإطالة في قصّته توسيعًا واطنابًا وحشوًا واستطرادًا، هذه الإطالة التي تفقد القصّة القصيرة جدًّا جماليّتها وفنيّتها.
ومن المعايير التي تؤدّي دورها ما له علاقة بعلامات التّرقيم، فهي لها من دور سيميائيّ ودلاليّ في الكتابة النّصيّة وفي بناء القصّةالقصيرة جدًّا خصوصًا، إنّها تُسهّل الفهم على القارئ، وتوضح المعنى المقصود، من خلال القراءة والتّلفّظ بالعبارة، فعلامات التّرقيم خير وسيلة لإظهار الصّراحة وبيان الوضوح في الكلام المكتوب، لأنّه يدلّ النّاظر إلى تلك العلامات الاصطلاحيّة على العلاقات التي تربط أجزاء الكلام بعضها ببعض بوجه عام، وأجزاء كلّ جملة بوجه خاص.
ولقد لوحظ أنّ بعض كتّاب القصّة القصيرة جدًّا يكثرون من علامات الحذف الثلاث أو الفاصلة، وهم بذلك يبحثون عن الإيجاز والاقتضاب، وتحقيق الجمل القصيرة ذات الإيقاع السّريع. وقد يلجأ البعض إلى الإكثار من علامات التّرقيم تزيينًا، أو ظنًّا من أن هذه العلامات وققة لتسليط الضوء على جمالية المشهد. إن هذه العلامات ضروريّة ويحقّ للقاص أن يستخدم ما يراه مناسبًا لكن من دون المبالغة في ذلك، ومخالفة ما وضعت له علامات التّرقيم.
ومن علامات التّرقيم المهمة في القصّة القصيرة جدًّا هي علامة الحذف بنقطها الثلاث، فهي تساعد على الإيحاء والتّلميح، وتترك لمخيلة القارئ البحث عن الفكرة، ولملء الفراغات البيضاء، وتأويل ما يمكن تأويله؛ لأن توضيح دلالات المضامين ومقصديّاتها لا يمكن توضيحها أكثر من اللازم، ومن البديهيّ أنّ هذا الحذف والإضمار يتطلّب قارئًأ ذكيًّا لما يكتبه الكاتب.
إنّ الدخول في عوالم النّصّوص يفتح لنا الكثير من التحليل والتّأويل وفهم المضمون استنادًا إلى ما فيه من خصائص وتقنيات وأساليب، وما يعمّق هذا فهمنا للدّور الذي تؤدّيه علامات الوقف والتّرقيم من دلالات سيميائيّة عدّة، لغة وأيقونًا ورمزًا وإشارة، فهي ترتبط بسياق النّصّ ذهنيًّا ووجدانيًّا وحركيًّا.
والتّركيز من المعايير التي تقوم عليها القصّة القصيرة جدًّا،وهو يقوم على الوظائف الأساسيّة والأفعال النّووية، والتّخلّص من الفضلات والملحقات والأفعال التّكميليّة التي لا تفيد الحبكة القصصيّة، أو تجنّب هذه الفضلات أو الزّوائد القائمة على الإسهاب والتّوسيع، ويمكن في مقابل ذلك الاقتصار على التفصيلات المختزلة المفيدة للنّصّ.
ومن خلال ذلك يصل القاص إلى معيار مهم، أي الاقتضاب الذي يشكّل مكوّنًا أساسيًّا للقصة القصيرة جدًّا، وهذا الاقتضاب يتطلّب منه أن يبتعد عن الاستطراد والتّكرار بنوعيه، ومن الطّبيعيّ أن يبتعد عن كثرة الوصف، وعليه فهو يقلّل من النّعوت والصّفات، لأنّها تسهم في التّوضيح والتّفسير وهو بذلك يخالف مبدأ الاقتضاب، أي أنّ الاقتصاد هنا أمر محبّذ لما فيه من إيجاز واختزال.
وتستند القصّة القصيرة جدًّا إلى التّكثيف، وهو يعني إذابة مختلف العناصر والمكوّنات المتناقضة والمتباينة والمتشابهة وجعلها في كلّ واحد، أو بؤرة واحدة تلمع كالبرق الخاطف، والتّكثيف يفترض بحضوره عددًا محدّدًا من العناصر، والتّقنيات على مستوى اللّغة في التّركيب والمفردة والجملة، وعلى الموضوع القصصيّ، وطريقة التناول، عبر اختيار الفكرة والمحافظة على حرارة الموضوع، وجدّته، والقبض على نبض النّص. وفي التّكثيف اختزال للأحداث، ما يجعلها تتجمّع في أفعال رئيسة وأحداث نوويّة مركّزة بسيطة.
ومن المهم في القصّة القصيرة جدًّا أن تعتمد في الغالب على الشّخصيّة الأحاديّة، مع اعتماد مقياس التّنكير، وهي بذلك تختلف عن الأنواع السّرديّة الأخرى. إنّها تتخلّص من الأسماء المحدّدة المعرّفة، فتصبح ذواتًا مجهولة نكرة.
إنّ الحديث عن خصائص القصّة القصيرة جدًّا ومعايير كتابتها يتطلّب أيضًا ما له علاقة بالمفارقة والدهشة وعنصر المفاجأة، وهو ما كانت لنا حوله وقفة في مقالنا السّابق. وما يهمنا تأكيده هنا أنّ القصّة القصيرة جدًّا ليست بعيدة من الفنون السّرديّة الأخرى من معالجتها الفكرة عبر أحداث مركّزة ضمن قالب زمنيّ وشخوص وأفضية واعتماد أساليب لغويّة تترجم رؤية كاتبها. ومتى ابتعدت القصّة القصيرة جدًّا عن المقومات الحكائيّة تحوّلت إلى خاطرة أو تتقاطع مع الومضة. فهي تخضع للحبكة السّرديّة والنّزعة القصصيّة. يؤدّي فيها الاستهلال والقفلة دورهما المهم، وهو حديث يطول ولن يسعفنا المقام هنا.
إنّنا في ملتقى الأدب الوجيز نسعى إلى تأطير هذا الفنّ وتثبيت معاييره، ولعلنا نحاول في ما نقوم به من خلق جوّ نقديّ تجاوزي، ننطلق فيه من الدّاخل معتمدين على دعائم راسخة ومتطلعين إلى رؤى جديدة.
*أستاذة في الجامعة اللبنانية
وعضو ملتقى الأدب الوجيز