ملاحظات عامّة حول مسابقة القصة القصيرة جداً في اليمن..

 

 

ملاحظات عامّة حول مسابقة القصّة القصيرة جداً في اليمــن..
كتبها/ رئيس لجنة التحكيم:
د. مسلك ميمون
————————-

أعتقد أنّ كلّ فنّ له قواعده وضوابطه.
التي تتحكم في بنائه ،و تسهل امكانات محاورته و تقييمه .و ليس هناك ما يشذّ عن القاعدة .
إلا إذا كنّا نَعمد للفوضى، و نَعتمدها كأسلوب و نَهج في الكتابة . فتلك مَسألة لا يحكمُها قانون. ولا ضوابط ، و لا تحدّها مبادئ و مقومات … و لعلّ هذا أوضح ما يكون في الشّعر، فقبل سنة 1948 كان الشّعر عروضياَ تحكمه اللّغة الشّعرية ،و البناء التّراتبي: البيت، و القافية، و الرّوي ..فضلا عــن التّيمات المختلفة،حسب الأغراض،و المناسبات. بعد ذلك جاء الشّعر”الحر”.فانقلبت الموازين. و أَوْهمَت كلمة ” حر ” خطأ أجيالا من الشّعراء، بأنّ الشّعر أصبح بلا وزن .. و هذا يعود لقلّة البحث، و الدّراسة. و العزوف عن طلب المعرفة ..لأنّ الشّعر ” الحر ” موزون على أساس التّفعيلة، و البحور الصّافية .
الشيء نفسه تكرّرفي مجالِ الق ق ج .
إذ اعتقد البعض أنّها بدون حبكة ، و أنّ سطرين أو ثلاثة، تحقق المُبتغى في مجال السّرد . فأصبح التّركيز على الحجم، أكثر من أيّ شيء أخر. فاسْتسهلَ البعضُ هذا الجنس الفتي : فكتبه الرّوائيون ، والقاصون، والصحافيون، و الشّعراء ،و المَسرحيون…بل كتبه أيضاً من لم يكتب في حياته في أيّ جنس أدَبي معين !
مع أنّ هذا الجنس السّردي صَعب للغاية،و شأنُه في ذلك شأن جميع الأشياء الدّقيقة و الصغيرة ، التي تتطلب جهداً، و صبراً، و دراية و مَهارة .. و المسألة ليست في الحجم وحده ، و إن كان هو نفسه غير ثابت، و لا مستقر، و لا محدّد.. فقد يكون النّص في سطرين، و قد يصل إلى أكثر من ذلك : نصف صفحة، أو صفحة كاملة.. وفق ما يُمليه الأسلوب،و دواعي الكتابة، واجتهاد الكاتب، و مدى براعته في مجال الحذف و الإضمار..و توظيف الكلام غير المباشر Indirect speech بل وضروب البلاغة الأخرى المختلفة ..

***
فماذا عن مشاركات المسابقة الأولى للرابطة اليمنية للق. ق. ج؟
لقد كان العدد، مائة نص قصير جداً.
و تيمات مختلفة ، و مواهب متفاوتة، وفنيات متبابنة.. و لكن معظم النّصوص كُتبت خارج دائرة القصّة القصيرة جداً ، و ذلك للأسباب التّالية :

1ــ قلّة أو انعدام المبادئ الأساسية Fundamental principles
لا يمكن لأيّ فنّان أن يَسمو و يرتقي بفنه ، و هو غير مُلم بأدوات هـذا الفن، و طرائق استعمالها ، و كيفية توظيفها فيما بينها، أو مع غيرها..و أنا أقرأ النّصوص شعرتُ أنّ البعض له فهم خاصّ للقصّة القصيرة جداً . فهي إمّا خواطر، و أمثلة رائجة ،أو حكايات ، أو في أحسن الأحوال شَذرات ..و كـلّ هذا قد يتقاطع مع القصّة القصيرة جداً، و قد تستفيد منه .. و لا ضير .. و لكن لا تكون قصّة تامّة الأركان به وحده.. لهذا لا بدّ من أنْ يكون القاصّ على بينة من خصائص هذا الفن .

2 ــ اللّغة المجازية Fugurative language
إنّ أغلب النّصوص كُتبت بلغة معيارية ، هي لغة المقالة، و الإخبار، و الإعلام عموماً..و هي لغة لا تصلح للقصة القصيرة ، فما بالك بالق ق ج / الومضة Flash story التي دَأبها الإيجاز، و التّكثيف اللّغوي، و التّلميح، و الرّمز، و اعتماد أسلوبي الحذف والإضمار.. و لغتها أقرب ما تكون إلى لغة الشّعر.إذاً، هذه الأشياء و توفرها رهين بلغة خاصّة، لن تكون لغة الإخبار، بل لغة تحتمل القراءات المتعدّدة، و التّأويل .. وتدفع للتّساؤل والتّأمّل .. و ذلك ، بأقلّ ما يمكن من الجمل و الألفاظ ..و كأنّها ترجمة للقولة “خيرالكلام ما قلّ و دلّ ” أو”أوجزَ فأوفى”

3 ــ قـوّة الكلمات Powerful words
حجم الق ق ج الضّئيل والصّغير لا يَسمح بالتّكرار، ولا الإسهاب، و الإطناب .. بل على العكس من ذلك، كلّ كلمة في النّص، ينبغي أن تكون وظيفية ، مُعبّرة ، و دالّة ، وخادمة لفكرة النّص ..لتكون قوية ، و قوّتها في الحقيقة لا تتحقق إلا في إطار نسق تركيبيّ، نحوي ، و صرفي، و لغوي، و إملائي ..فالنّصوص التي اطلعنا عليها بعضها مليء بالأخطاء ، و الهفوات ..التي لا نعتبرها عفوية ، أو أخطاء الرّقن.. بل إنّها صادرة عن عدم دراية و دراسة..و استخفاف بقواعد اللّغة … فمن أين للكلمة أنْ تكون قوية ، و لها دلالة ،و وجوداً فعلياً،و وظيفياً في النّص إذا كانت هذه النّقائص كلّها أو بعضها …؟ !

4 ــ تقنيات الابتكار Creativity techniques
أهمّ شيء يستوقف النّاقد، أو الباحث الدّارس لأي فنّ من الفنون ..هو البحث عن تقنيات الابتكار. أي البحث عن الجديد و تسليط الضّوء عليه ، و إبرازه ، و كشف عطاءاته، و مستحدثاته، و ما عساه يضيف للعمل الإبداعي …لكن أغلب النّصوص أخذت مَنحى واحداُ، و لم تحد عنه ألا و هو : استعراض فكرة ما .و هذا أمر أصبح متجاوزاً جداً ، و هو من مخلفات القصّة الكلاسيكية ، أو حتّى لا نجني عليها بالتّعميم نقول: من مخلفات بعض الكتابات الكلاسيكية القديمة جداً.فما بالك بالقصّة الحديثة ؟ و بخاصّة الق ق ج ؟ ففي عصر الأنفوميديا ،و المعلوميات، و تقنيات التواصل ، و خدمات السّرعة الفائقة..أصبح من الضّروري احترام ذكاءَ المتلقي، و ألا نقدم له الشّئ جاهزاً، و كأنّه قاصر ، لا يقوى على الفم، و لا التّحليل، و لا الاستيعاب، أو الاستنباط .. و من هنا تصبح تقنيات الابتكار ضرورة ملحة .و هي ككلّ الأشياء الاجتهادية لا تأتي من فراغ. بل لا بدّ للقاص أن يكون قارئاً لأعمال الآخرين ، متتبعاً لمستجدات الأمور في السّاحة الأدبية و الثّقافية ، بل و الاجتماعية و السّياسية، ملماً بأدوات اشتغاله ،و على بينة من معطيات النّقد التّنظيري و التّطبيقي ، و على قدرة و مهارة في جعل المألوف غريباً و العكس، و إحداث العَصف الذّهني Brainstormingلدى المُتلقي …

كلّ هذا لا يمنع أن أقول: إنّ في النّصوص جميعها ما يبشر بالخير. فما من نص إلا و فيه دَلالة مشجعة ،و موهبة في حاجة إلى عناية و توجيه و مسايرة .. رغم أنّ هذا الفن الجميل مازال أرضاً بِكراً، و مَجالا خِصباً للاكتشاف .. قياساً للكتابات الأوربية، أو ما نجده في أمريكا اللاتينية.و لكن، إنّ المواظبة ، و الإنصات الجيّـد لنبضات النّقد،و دعم ذلك بالمطالعة المُستمرة..سيصقل المَوهبة، ويفتحُ الأبواب نحو آفاق أرحب، و أجمل، و أنضج.. تُحقّق الإبداع الذي نَتطلع إليه في مجال الق الق ج.

****

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.