في كتابة الق الق جداُ تختلف الرؤية السردية من قاص لأخر وِفق الثّقافة، والميول، و الرّغبات… و وِفق ما تمليه ظروف النّص، و أهمية الفكرة، و دورها في حياة الفرد و الجماعة، إن لم نقل دورها في الحياة الإنسانية. وإلى جانب ذلك تختلف لغة القصّ أيضاً بين من يرى الكتابة الأيقونية التّرميزية المكثفة.. هي السّبيل لنسج نصّ في حبكة و دلالة ، و تأثير. و على العكس من ذلك هناك من يَستعين بلغة بسيطة لكنّها عميقة الدّلالة، محكمة النّسج، لمّاحة هادفة…
و لقد تحقّقت الرّؤية السّردية، و اللّغة البسيطة الفنّية الهادفة في نص “عزلة” للقاص عبد الحميد الغرباوي. نصّ كنت قرأته قبل عشر سنوات في موقع واتا (Wata) فعدت إليه اليوم ، فوجدته كما قرأته أوّل مرّة، يأسر ببساطته، و يحلّق بالخيال بعيداً برؤيته و دلالته..
و معانيه الإيحائية (connotatives)
*** ***
عُزلَـــة
[highlight]العصفور الوحيد في قفصه الصغير العتيق، كما لو أنه ينظر في وجه الرجل..
الرجل الوحيد في غرفته الضيقة أعلى سطح منزل يتأمل العصفور المنكمش على نفسه..
ما بين العصفور و الرّجل قضبان رقيقة من حديد.[/highlight]
*** ***
العنــوان : اسم نكرة تقديره في جملته الاسمية خبر لمبتدأ محذوف: هذه عزلة .
لغوياً، العزلة: عَزَل الشّيءَ يَعْزِلُه عَزْلاً وعَزَّلَهُ فاعْتَزَلَ وانْعَزَلَ وتَعَزَّلَ: نَحَّاه جانِباً فَتَنَحَّى.
وتَعَاَزَلَ القومُ : انْعَزَلَ بَعْضُهم عن بَعَض .
والعُزْلةُ : الانْعِزال نفسُه، وكُنْتُ بمَعْزِلٍ عن كذا وكذا أَي: كُنْتُ بموْضع عُزْلةٍ منه .
واعْتَزَلْتُ القومَ أَي فارَقْتهم وتَنَحَّيت عنهم ..
وفي التنزيل العزيز : الدخان آية 21 ( وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ )
و في الشّعر قول الشّاعر : العِزُّ في العزلةِ لكنّهُ … لا بُدَّ للنّاسِ من النّاسِ
و في علم النّفس:” حالة ينفصل فيها الفرد عن الآخرين ، أو خوفٌ من الاتِّصال بالآخرين وكراهيتهم” .
إذاً نحن أمام حالة انعرال، ( Isolement) و العنوان في تنكيره يفترض كلّ أنواع العزلة.و يجعل الذّاكرة تستدعي كلّ مدّخراتها عن العزلة و الانْعزال، و مواصفات ذلك، و أسبابه و دواعيه..والعنوان أيضاً، و بهذه الصّيغة يثير فضولا مَعرفياً، و لهفةً و تشويقاً لقراءة النّصّ:
عصفور وحيد ، في قفص قديم. نظراته كأنّها ثابتة تتطلع إلى الرّجل.
الرجل أيضاً وحيداً في غرفة ضيّقة فوق السّطح ، ينظر إلى العصفور المنطوي على نفسه .
و الذي يفصل بينهما قضبان القفص الحديدية الرّقيقة.
نحن أمام ثلاث لوحات، لوحة العصفور ، و لوحة الرّجل و كلاهما ينظر إلى الآخر .و لوحة القضبان الفاصلة بينهما. و هذا ما نسميه بالتّعبير المشهديّ. إذ يصبح المشهد أداة تعبير و إيحاء فنّيّ، كما يصبح مكوناً عاملا في إثارة الخيال. و تحفيز التّخييل…
لنتأمل اللّوحة الأولى : [العصفور الوحيد في قفصه الصّغير العتيق، كما لو أنّه ينظر في وجه الرّجل..] نحسّ بمدى المُعاناة، التي يعانيها في صمتٍ عصفور وحيد، لا مؤنس له، في قفص قديم ضيّق، و قد ألف الأجواء الفسيحة ، و الرّياض الغناء، و تيارا ت الهواء تحمله عالياً حيث يشاء…كلّ ذلك انْتهى و ربّما للأبد. و أصبح العمر كلّه عزلة خانقة بين قضبان حديدية رقيقة لقفص ضيّق عتيق لا يُطاق. فحين يتطلع العصفور إلى وجه الرّجل، فكأنّما يحاول أن يقرأ في نظراته، و ملامح وجهه، ما يدور في رأسه ، أو كأنّه يتوسل إليه يائساً أن يطلق سراحه. أو كأنّه بصرَ بما لم يبصر به غيره في قول الشّاعر:
و العينُ تبدي الذي في نفسِ صاحبها***من المَحبَّــة أو البغــضِ إذا كانا
و العينُ تَنطـــقُ و الأفــــواهُ صامِتة***حتَّى ترى من ضَميرِ القلبِ تِبيانا
و في اللّوحة الثّانية من النّص: [الرّجل الوحيد في غرفته الضّيقة أعلى سطح منزل يتأمّل العصفور المنكمش على نفسه..] اللّوحة الثانية لا تخلو من معاناة صامتة، سببها الوحدة و الانعزال الذي فرضه الفقر و الحاجة، و الذي حرمه أن يكون كغيره، بدار و رفاهية،و مال و حاجيات، تبعدُ عن كلّ حرمان و بؤس،و حياة شظف و احتياج ..و لكن انتهى به الوضع وحيداً، في غرفة بئيسة ضيقة، فوق سطح منزل ما.فإن كان يتأمّل العصفور المنكمش في قفصه، فإنّما كان يتأمّل نفسه، و وضعه المشابه. قدْ يقال: ما دام الأمر هكذا، فلماذا لم يحرر العصفور من قفصه؟ هو يتمنى ذلك، ما دام يتأمّل، و لكنّه لا يستطيع . لسبب خارج عن قدرته و إمكاناته ، و في غاية التّعجيز:
ذلك أنّ العصفور في قفصه الضّيق، إنّما هو وضع الرّجل، مجسدا أمامه. أو شبيه بالحقيقة (vraissemblable) فكيف يغير وضعه المعيشي؟ و كلّ ما أمامه يشدّه إلى الفقر المدقع و الحاجة. في مجتمع تستنزفه الرّأسمالية المتوحشة الجشعة، إذ أصبح فيه الرّأي السّائد : (أنا) و بعدي الطوفان، مشروع حياة، وسمة أخلاق، و مبدأ أكون أو لا أكون . لهذا غرق الرّجل في التّأمّل، لأنّه لا يملك إلا ذلك.
اللّوحة الثالثة : [ما بين العصفور و الرّجل قضبان رقيقة من حديد.] اللّوحة الأخيرة تشعّ ببعض الأمل، أو توحي به، في أسلوب فنّي تصويريّ، إن ما بين العصفور/ وضع الرجل. و بين الرّجل مجرّد قضبان من حديد رقيقة (أسلاك )، يسهل ليّها و إبعدها عن بعضها و فسح المجال للطّائر كي يطير، و يستعيد حريته…و يحلّق بعيداً…
و في ذلك رمزية للحلّ الذي و إن كان يبدو سهلا، و لكنّه مجازفة و مخاطرة قد لا تحمد عُقباها. فتغيير وضع الرّجل في ظلّ الأفاق المَسدودة، و الحقوق الضّائعة، أن يفكر في في أمور سودوية: كترويج مخدرات،وبيعها،و الميل إلى النّصب و الاحتيال، و ابتزاز الآخرين، أو السّطو على الممتلكات، و التّهديد بالسّلاح، أو المغامرة في الاجتياز إلى الضّفة الأخرى، حيث أوروبا الحلم الةردي !هكذا يبدو الحلّ المفترض، في لحظة يأس و تدمّر كقضبان حديدية رقيقة من السّهل ليّها.
نخلص إلى رؤية الرّجل ، فهي رؤية انهزامية يائسة، تميل إلى الانطواء (Introversion) في ظلّ معاناة قهرية و وضعية اجتماعية سيّئة، لا تتيح فرصة، ولا تساعد على امتلاكها .. فكم من شاب يتأمّل وضعيته مجسّدة أمامه، و لا يملك إلا التّأمّل بدون جدوى ،و التّفكير الذي لا ينتهي به إلا للأسوء.
نص قصصيّ هادف، يشهد لصاحبه عبد الحميد الغرباوي بعمق نظرته لوضع لا يزداد إلا تفاقماً مع تعدّد العاطلين و الفقراء، و انسداد كلّ أفاق التّحوّل و التّغيير. كما يشهد له ببراعته الفنّية في توظيف التّعبير عن طريق اللّوحات. و لا غرو في ذلك، فهو قاصّ بارعٌ ، و فنّان تشكيليٌّ مُتميّز …
تحياتي / مسلك