أقصر قصص في العالم / جودت هوشيار
أقرأ بمزيد من الدهشة والإستغراب ما نشره عدد من النقاد والكتّاب العرب من كتب ودراسات عن ”القصة القصيرة جداً”، وكأنها جنس أدبي جديد ظهر في الأدب العربي المعاصر في التسعينات من القرن الماضي، إستجابةً لمجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المستجدة في المنطقة والعالم.
ووصل الحماس بالبعض الى حد المطالبة بإدخال هذا (الجنس) الإبداعي الجديد الى المناهج الدراسية في شتى مراحل التعليم الثانوي والجامعي. وهم يتحدثون عن خصائصها الفنية بإسهاب. ويسترسلون في الإطناب التنظيري لها. ويحددون أركانها، وشروطها، ومعاييرها. ويقولون أن القصة القصيرة جداً قصة او حكاية تتسم بالجرأة والوحدة والتكثيف والإقتضاب، والمفارقة والسخرية، وطرافة اللقطة، والإدهاش وفعلية الجملة، واستخدام الرمز والإيماء والتلميح والإيهام، والإعتماد على الخاتمة المتوهجة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها، وما إلى ذلك من خصائص لا تقتصر على القصة القصيرة جداً، بل هي خصائص متجذرة في فن القصة القصيرة، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وتتجلى بأوضح صورها في قصص أقطاب كتّاب القصة القصيرة في العالم.
واذا كان المعيار الأساسي هو حجم النص، فإنه لا يوجد تحديد واضح ومحدد لحجم
النص القصصي الذي يمكن اعتباره قصة قصيرة جداً، ويحتفظ في الوقت ذاته بكل
العناصر الأساسية للقصة القصيرة. ووفقاً للتقاليد الأدبية الإتجليزية، يحدد
هذا الحجم بـما لا يزيد عن (300 إلى 1500) كلمة. وفي الأدب الروسي يقاس
بعدد الأحرف أو الصفحات، حيث يعتبر النص الذي يقل عن 2000 حرفا أو ثلاث
صفحات قصة قصيرة جداً. ويطلق الروس على القصة القصيرة جداً مصطلح ”النثر
المصغر” أو الـ”منمنمة“. وتوجد في الأدب الروسي الكلاسيكي نماذج كثيرة
لنصوص قصيرة للغاية، يقل عن نصف صفحة.
ومع شيوع استخدام شبكة الإنترنت
اصبح من المريح اعتبار النص قصيرا جدا اذا لم يكن المتصفح بحاجة الى
التمرير العمودي للنص على الشاشة. ومن الواضح أن مثل هذا التعريف ليس
دقيقا، لأنه لا يأخذ في الاعتبار الاختلاف في ابعاد الشاشة و حجم الحروف.
الجذور التأريخية للقصة القصيرة جداً
والحق أن ”القصة القصيرة جداً” ليس فناً او جنسا ادبيا جديدا، ولا يعود ظهورها الى التسعينات من القرن الماضي. بل هي نصوص أدبية تتسم بالإيجاز البليغ، وتتوافر فيها البراعة القصصية وأحيانا، كل العناصر الفنية للقصة القصيرة الناجحة، ونجدها في الأدب الغربي لدى جمهرة من كتّاب القصة القصيرة .منذ أكثر من قرن من الزمان. ولا أحد من النقاد الغربيين يربطها بالتغيرات السياسية او الاجتماعية او الاقتصادية، التي شهدتها مجتمعاتهم، أو بالظواهر الدولية أو الكونية، بل بنظرون اليها كلون لطيف من ألوان الأدب القصصي المركز، ساهمت شبكة الإنترنيت في شيوعه وترسيخه.
يعد ايفان تورغينيف (1818-1883) أول من كتب النصوص النثرية القصيرة وذلك في اواخر السبعينات من القرن التاسع عشر، وتحتفل روسيا سنويا بما يسمى مهرجان ”النثر المصغر” تخليدا لذكرى هذا الكاتب الروسي العظيم، الذي يعد المؤسس الحقيقي لهذا النمط المقتضب من القصة القصيرة. وقد صدرت في روسيا أنطولوجيا ”النثر المصغر“ تخليدا لذكراه، وتضم مختارات من نتاجات الكتاب الروس المعاصرين البارزين في هذا النمط الإبداعي، وهي لا تختلف عن القصة القصيرة جداً، وان اختلفت التسمية. كما ان العديد من الكتّاب العالميين كتبوا نصوصاً قصصية قصيرة للغاية، وفي مقدمتهم أنطون تشيخوف (1860 – 1904) وايفان بونين (1870 – 1953)، وفرانز كافكا (1880 – 1924)، و أو. هنري (1862- 1910)، وهوارد لوفكرافت (1890- 1937) ، وارنست همنجواي (1899- 1961) ومن الكتاب الأميركيين المحدثين راي برادبري ( 1920 – 2012). وفي بريطانيا آرثر كلارك ( 1917- 2008). وفي اليابان ياسوناري كاواباتا (1899 – 1972). وفي الأرجنتين مايسترو (القصة القصيرة والسرد القصير) خوليو كورتاثر (1914 1984).
وفي البلدان الناطقة بالإسبانية برز في هذا المجال الكاتب آوغوسطو مونتيروسو (1921-2003) الذي كتب احدى اقصر القصص في الادب المدون بالاسبانية. و خورخيه لويس بورخيس (1899-1986) و اغناسيو مارتينيس كافيرو، ورومون غوميس، وخوسيه مارينو، وخوان ميلياس.
ويقول الناقد والكاتب
الكوبي من اصل ايطالي ايتالو كالفينو (1923-1985) أنه كتب في هذا النمط
السردي مستلهما تجربة بورخيس، وكذلك الكاتب ادولف بيئوي كاساريسا، وهو الذي
قال ان بأن مونتيروسو كان أفضل الكل، وانه نفسه كتب تحت تأثير هذا
الكاتب..
ويتناسى منظرو وكتّاب القصة القصيرة جداً في العالم العربي،
ان نجيب محفوظ هو اول كاتب عربي كتب العديد من المنمنمات القصصية، ولم يدر
بخلده أن يقول أنه ابتدع جنساً أدبياً جديداً، مع أن تلك المنمنمات ترتفع
بمستواها الفكري والفني الى مصاف اجمل ما كتب في هذا النمط الابداعي. ورب
قائل ان جبران خليل جبران كان اسبق من نجيب محفوظ في كتابة هذا اللون
القصصي، ولكن تجارب جبران كانت أقرب الى ”الخواطر” منها الى المفهوم الحديث
للقصة القصيرة جداً.
نماذج من القصة القصيرة جدا في الادب العالمي
في أواخر القرن التاسع عشر أجرت احدى المجلات الأميركية مسابقة للقصة القصيرة جداً، شريطة أن لا تتجاوز 55 كلمة (في اللغة الأنجليزية)، وتتوافر فيها كل عناصر القصة من بداية، وذروة، ونهاية، وحبكة. وقد فاز في المسابقة الكاتب الأميركي الشهير أو.هنري (1862- 1910).
”كان سائق سيارة يدخن عندما انحنى ليرى مستوى البنزين المتبقي في خزان الوقود. كان الفقيد في الثالثة والعشرين من عمره“
وكتب فرانز كافكا مجموعة كبيرة من القصص القصيرة جدا. وقد سبق لنا ترجمة طائفة من هذه القصص الى اللغة العربية، ونشرت في بعض المجلات والصحف البغدادية في أوائل السبعينات، في وقت لم يكن شيء من اعمال كافكا قد ترجمت الى اللغة العربية، ما عدا قصة ”التحول” التي ترجمت تحت عنوان ”المسخ”. وهذه ثلاثة نماذج من القصص القصيرة جداً لفرانز كافكا التي قمنا بترجمتها ونشرها قبل أكثر من أربعة عقود.
الأشجار: ”ما دمنا نحن مثل أشجار مقطوعة في الشتاء، فإن هذه الأشجار تبدو لنا وكأنها قد تدحرجت على الثلوج ببساطة، وإننا ما أن ندفعها قليلاً، حتى تتحرك. كلا ليس بمقدورنا أن نفعل ذلك، لأنها تجمدت، فالتصقت بالأرض. اقترب منها وجرب، وسترى ان هذا ما يخيل اليك فحسب.
القرية المجاورة: ”كان جدي يقول أحياناً – ما أقصر الحياة! حينما أتذكر حياتي الماضية، فان كل شيء فيها يبدو متراصاً ومتلاحقاً على نحو يجعل من الصعب عليّ أن أفهم كيف يتجاسر شاب على السفر ولو الى قرية مجاورة ممتطياً جواده، ولا يتملكه الخوف – ليس فقط من كارثة في الطريق، بل من أن حياة اعتيادية، ولو كانت موفقة لا تكفيه ابدا للقيام برحلة كهذه”.
الفساتين: ”حينما أرى الفتيات الحسان وقد ارتدين الفساتين الجميلة، التي زينت بالكشاكش والثنايا الفخمة، وطرزت بالنقوش المتنوعة، يتبادر الى ذهني، ان الفساتين لن تحتفظ بمظهرها وشكلها لمدة طويلة: الثنايا تنكمش، ولا يمكن إستعادة شكلها الأصلي، والنقوش يكسوها الغبار، ولا يمكن تنظيفها. وليست ثمة إمرأة واحدة ترضى أن ترتدي من يوم الى يوم، ومن الصباح حتى المساء، الفستان الفاخر نفسه، لأنها تخشى أن تبدو بائسة ذليلة، بيد أني أرى فتيات جميلات، رشيقات القوام، ناعمات البشرة، لهن شعر كثيف باهر، يظهرن بذات الأقنعة التي وهبتها الطبيعة لهن، ويريحن وجوههن المعتادة على الأيادي ذاتها. ولكن في بعض الأحيان فقط، عندما يعدن الى بيوتهن في وقت متأخر من المساء، بعد حفلة راقصة، ويتطلعن الى أنفسهن في المرآة، يخيل اليهن أن وجهاً مغبراً، منتفخاً، مهلهلاً ينظر اليهن. وجه اعتاده الجميع وبلي الى حد كبير”.
أما ارنست همنجواي المعروف بأسلوبه الذي وصفه بنفسه أنه أشبه بجبل الجليد، الذي لا يرى منه سوى ثمنه، اما الأجزاء السبعة فهي مغمورة في الماء. فقد كتب اقصر قصة قصيرة مؤثرة في تأريخ الأدب العالمي وهي تتألف من ست كلمات فقط:
” For sale: baby shoes , never used “
”للبيع: حذاء أطفال ، لم يستعمل قط“
وثمة قصة قصيرة للغاية لمونتيرّوسو، وهي تحت عنوان:
“الدّيناصور” وهي مؤلفة من سبع كلمات: “عندما إستيقظ، كان الديناصور ما زال هناك…”
قصة من مائة كلمة Drabble” “
ثمة نمط متميز من الوان القصة القصيرة جدا، انتشر في المملكة المتحدة منذ العام 1980 تحت اسم ”درابل فلاش فيكشن“. ومن أهم شروط قصص “درابل” ان تكون القصة في مائة كلمة بالضبط لا يزيد ولا ينقص (ما عدا العنوان)، وتتوافر فيها العناصر الأساسية المعروفة للقصة القصيرة. وهو نمط صعب يتجلى فيه قدرة المؤلف على التعبير عن فكرة ذات معنى بشكل مقتضب في عدد محدود من الكلمات.
ولدت قصص”درابل” في جامعة برمنغهام كشكل من أشكال اللعب اللفظي، قبل ان تتخذ شكل المسابقة الأدبية.
واللعبة مستوحاة من كتاب ساخر يحمل عنوان ”كتاب مونتي بايثون الكبير الأحمر ” الصادر في لندن سنة 1971، لمجموعة مؤلفين – تهكماً بكتاب ماو ”الكتاب الأحمر الصغير”. يصف المؤلفون في الكتاب الكبير “لعبة كلمات” حيث يجتمع عدد من الأصدقاء حول موقد النار، يحتسون البراندي، ويتبادلون الأحاديث الممتعة، ويتنافسون فيما بينهم، في تأليف قصة قصيرة جداً، لا يتجاوز عدد كلماتها مائة كلمة بالضبط، ويعتبر فائزاً اول من ينتهي من تأليف القصة، مهما كان موضوعها او اسلوبها.
صدرت منذ ذلك الوقت العديد من مجموعات قصص “درابل” لكتاب معروفين في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، وأميركا اللاتينية والعديد من دول العالم.
قصة من 55 كلمة
في عام 1987 عدّل ستيف موس، رئيس تحرير مجلة ”نيو تايمز” شروط كتابة قصص (درابل)، واعلن عن مسابقة أدبية جديدة لكتابة قصة قصيرة جداً، لا يتجاوز طولها 55 كلمة. وكانت شروط المسابقة عديدة وصارمة، ولكن يمكن ايجازها في ما يلي: ”ينبغي كتابة قصة قصيرة جدا تتوافر فيها العناصر الأساسية للقصة القصيرة، وذات حبكة واضحة، وبطل واحد او اكثر، ونهاية غير متوقعة“. وقد استلمت المجلة عددا هائلا من القصص القصيرة جداّ، وفازت في المسابقة قصة الكاتب الأميركيجون دانييل .التي تحمل عنوان “الغيتار”
“عندما كنت طفلاً ، كانت زوجة أخي الأكبر تشتكي لي دائما بأن زوجها لا يعيرها أي أهتمام حين، يعزف على الغيتار. وكانت تقول، أنني متأكدة أنه يحب غيتاره أكثر مني. وبعد بضع سنوات انفصلا عن بعضهما. أعتقد بأن هذا كان الحل الأفضل لحالتهما”.
ان اهم شرط لنجاح مثل هذه القصص ، سواء كانت مؤلفة من (100) أو (55) كلمة، هو أن ان ينسى الكاتب تماماً ما يحدث في الواقع، ويطلق العنان لخياله، وان تكون القصة ممتعة، يقرأها المتلقي بشغف في أقل من دقيقة.
مثل هذه القصص قد تكون خيالية، أو بوليسية، أو عبثية، أو مرعبة، أو مؤثرة. أي ببساطة قصة غير عادية.
وقد اختار موس افضل القصص المشتركة في المسابقة وأصدر انطولوجيا تحت عنوان ”اقصر القصص في العالم“. وكتب للأنطولوجيا مقدمة ضافية حدد فيها أهم عناصر وخصائص هذا النوع من القصص..
لم يتوقع موس أبداً أن تدخل القصة القصيرة جداً المؤلفة من (55) كلمة فقط إلى المناهج الدراسية، واستلم عدد كبيراً من الرسائل من الأساتذة والطلبة يشيدون بجهوده المبذولة في هذا المجال ويشكرونه، لأن تجربة كتابة قصص من هذا النوع تعلّم الطلبة التعبير عن الأفكار بوضوح ودقة، وتدربهم على إعادة النظر في النص مراراً وتكراراً، وعلى اكتساب المهارة في استخدام تقنيات الكتابة.
هذا اللون الإبداعي مفيد أيضاً لكتّاب القصة القصيرة والرواية، حتى المعروفين منهم، لأنه يعلّمهم الأقتصاد في الكلمات. وثمة اليوم في معظم دول العالم كتاب مشهورون يمارسون كتابة هذا اللون اللطيف من القصص المختصرة الى جانب القصة القصيرة والرواية، ومنهم الكاتبة الروائية الأميركية ليديا ديفيس (ولدت عام1947) التي إشتهرت بقصصها القصيرة جداً، ونالت عنها جائزة البوكر الدولية لعام 2013. وهي جائزة تمنح كل عامين للأعمال الأدبية المكتوبة باللغة الأنجليزية أو المترجمة اليها. وقال رئيس لجنة التحكيم لجائزة البوكر الدولية السير كريستوفر ريكس في الإحتفال الذي اقيم في 22 أيار من ذلك العام في متحف (فكتوريا والبرت) بلندن تكريماً للكاتبة:
“يمكنكم اطلاق اسم” المنمنمات، أو المشاهد، أو المقالات، أو الحكايات، أو الأمثال، أو الملاحظات، أو حتى الخرافات، أو الأدعية، على هذه النتاجات”.
أي أن مفهوم ”القصة القصيرة جداً” في الأدب العالمي أرحب بكثير مما يتصوره
اولئك الذين يميلون الى وضع هذا اللون الإبداعي في خانة ضيقة وتقنين شروطه ومواصفاته.
……………….
دراسة نشرتها في مجلة “المنال” قبل حوالي سنتين.
جودت هوشيار