( الق ق ج) و الكتابة التَّأويلية

كتابة قصة قصيرة جدا ليس بالأمر السّهل كما يظن البعض

                                (الق ق ج) و كتابة التّأويل         

  قد يتعجب البعض من مسألة التأويل (interprétation) و اعتبارها خاصية في بناء العمل القصصي القصير جدا، علماً أنَّ التّأويل نهج و قراءة نقدية ، و قواعد و نظم هرمنيوطيقية.. من أجل تحليل النّص الأدبي، و إزاحة ما يَعتريه من إبهام،لإتاحة الفهم الصّحيح..فما علاقة هذا بذاك ؟

 ينبغي أن نعلم أنّ كتابة (الق ق ج) كتابة خاصة، ففضلا عن التّكثيف اللّغوي، و الحذف، و التّضمين، و الإيجاز، و التّسريع.. يَنضاف إلى كلّ هذا التّأويلية. و إلا سيهيمن على النص أسلوب التقرير، فتتحول اللغة القصصية من فنّ سردي تخييلي، إلى مادّة إخبارية ليس إلا .. و شتان بين هذا وذاك ..و للأسف هذا ما تقع فيه نصوص كثيرة. و حتّى تكون الكتابة تأويلية، تمنح (الق ق ج) رونقها و تميّزها، و تسمح بالتّأويل ينبغي مراعاة التّالي:

1 ــ يفترض تجنّب السّارد العليم (Omniscient) ([1]) ما أمكن، لأنّه يكشف كلّ شيء، و يقرّ بأكثر مما يجب، فتصبح الفكرة أوضح من الشّمس في رابعة النّهار، فلا مفاجأة صادمة ولا دافع للاستنتاج و التّحري، ولا لهفة تشويق، و لا متعة قرائية. و لا كسر أفق الانتظار للمتلقي (Horizon d’attente) أي:  ما يعرف في النقد : التبئير الصفر ، بمعنى السّارد كلّي المَعرفة . يعلم ما خفي و ما ظهر عن الشّخصية..و مثل هذا السّارد، لا تكون كتابة حكيه كتابة تأويلية. وإن كانت مؤثرة، فتأثيرها لحظي ينتهي بانتهاء القراءة، لأنّها بصيغ إخبارية (Indicative) و بالتّالي لا تسمح لاختراق تخوم النّص، و لا تتيح مجالا للتّأويل..و من ذلك نص للقاص يوسف حطيني: ” شجرة العائلة”([2])

” سعيدةً كانت تلعب مع أفراد أسرتها، عندما داهمها قصف ألهب شاطئ غزّة.
في حصّة الرّسم طلبت المعلمة من الجميع أن يرسموا شجرة عائلتهم الصّغيرة. فرح الطّلاب، وراحوا يجتهدون في رسمها، و يجترّون ذكرياتها في قلوبهم النّزقة.
لم ترسم هدى غالية في ذلك اليوم سوى ورقة يتيمة.”

   نلاحظ أنّ السّارد قال كلّ شيئ ، فضلاً على أنَّ الواقعة معروفة و مشهورة.. و بالتّالي لا شيء يحفز على التّأويل.

2 ــ و عكس السّارد العليم، هناك السّارد الذي تكون معرفته على قدر معرفة الشّخصية الحِكائية ، بمعنى لا معلومات هامّة من السّارد، إلا بعد أنْ تتوصّل إليها الشَّخصية.فالمتلقي لا ينتظر شيئاً من السّارد ليوضح له سير الحدث، و تطوره، بل ينتظر كلّ شيء من ذات الشّخصية.. فهنا يكون التّشويق، نتيجة الصّيغ النبئية (Prédicatives) فتطيب المُتابعة، و يكثر الاهتمام بالشّخصية، و تأويل تصرفاتها، و سلوكها، و نمط تفكيرها، و عيشها، و قدراتها، و رغباتها، و آفاق مآلها.. كلّ ذلك يثير فضول المُتلقي، و يُحفزه على التّأويل، و الاستقراء، و الاستنباط ..و في ذلك مُتعة النّص..و هذا ما يُسمّى بالتّبئير الدّاخلي. كالذي نجده في قصة : “بياض الدّهشة ” للقاص المصطفى كليتي ([3])

  ” التأمت العائلة الكبيرة في جو سادته رهبة اللّحظة، و الموثق المؤتمن يفتح صندوق الأسرار الأسود، حيث أودع ” الجد الهالك” وصيته الأخيرة. أخرج منه الموثق بحذر شديد ورقة بيضاء صقيلة، لم يُخط عليها حرف، تأكدوا من فراع الصّندوق وهم يقلبونه رأساً على عقب. ذهلوا، و انسحبوا تباعا، و قد أفْغَمتهم الدَّهشة.”

  لا شكّ أنّ الخرجة تحيلنا على سيلٍ من الحيرة و الأسئلة.. و كلّ ذلك يشكّل طيفًا من التّخمينات و التأويلات…لأنّ السّارد اكتفى بالعرض، و تجنّب التّفسير..و ترك المجال للمتلقي ليؤوّل الحدث، أو يملأ الفراغ..

ــ العنوان: بياض الدهشة
ــ رهبة اللحظة
.ــ الموثق المؤتمن يفتح صندوق الأسرار الأسود
ــ ورقة بيضاء
.ــ فراغ الصندوق
.ــ أفغمتهم الدهشة
نلاحظ : بياض الدهشة +ورقة بيضاء ــــــ صندوق الأسرار الأسود فالتناقض و التضاد بين اللّونين البياض و السّواد يشكّل مفارقة ينجم عنها: [ فراغ ]… و هنا يبدأ التّأويل في إطار [ اللّونين و الفراغ…]



3 ــ و من الكتابة القصصية التّأويلية تلك التي يأتي بها سارد يعتمد المظهر الخارجي و لا يعلم ما يدور في خلد الشّخصية / الشخصيات. بمعنى يعرف أقلّ مما تعرف الشّخصية، دون تفسير لمشاعرها، و أفكارها. السّارد مجرّد مُلاحظ خارجي.. لذلك  يعرف في النّقد : بالتّبئر الخارجي. و لكن يفسح مجالا رحباً للتَّأويل، و متعة المشاركة في كتابة النّص لما يعتريه من فجواتٍ و بياضٍ..و خلوٍّ من فائض اللّفظ، و من السّرد المُقحم  (Intercalée) كالذي نجده في قصّة القاص حسن البقالي : ” حفريات ” ([4])

 ” لا يهم كيف عاش حياته..
و إنْ كان ذلك الثقبُ في جمجمته دليلا على موته قتْلا بضربة رُمح أو ما يشيه الرّمح.
رسالتهُ الأهمّ للخَلف، بعد آلاف السّنين، أنّ أفضلَ علاج للموتِ هو الضَّحك.
ذاك على الأقل ما أوحت به بقايا الجثة المَدفونة تحتَ الثّلج لعلماء الآثار..
 البقيا التي ترسمُ فكّاها ظلالَ ضحكةٍ مُبهمة .”

  السّارد اعتمد المظهر الخارجي للجثة، و ما توحي به، و لكن لا يعلم شيئا عن الشّخصية، كيف عاشت و لماذا قتلت ؟  و ما سرّ ارتسام ضحكتها ؟

    خلاصة القول: أنّ (الق ق ج) نظرا لحجمها، و تكثيفها، و ضغطها ..لا تسمح بالسّارد الثّرثار..بل على العكس من ذلك تلتئم و السّارد المحايد اللّمّاح الذي لا يقول كلّ شيء، و ما يقوله رغم اقتضابه و نقصه يُحمل مَحمل التَّأويل من خلال القرائن التي يأتي بها في النّص.

* مسلك ميمون *


[1]  ــ يقول السرديون: ” إن استراتيجية السارد العليم هي أبسط أنماط السرد، و لكنها بالأساس أخطر أنماطه، لأن
الهيمنة تؤدي إلى تحمّل كلّ المسؤوليات.”

[2]ـ د يوسف حطيني مجموعة “جمل المحامل” 100 قصة فلسطينية قصيرة جدا ط/1 الناشر: دار الوطن

 [3]ــ المصطفى كليتي، مجموعة ”  ” تفاحة يانعة وسكينة صدئة” ط/ 1  2013 نشر دار الوطن الرباط

[4]  ــ حسن البقالي مجموعة ” كالعزف على القثارة ” ط/1 2020 مطبعة وراقة بلال/ فاس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.