عن مجلة ” حكمة” :
× الكتّاب، المثقفون، الأساتذة ×
رولان بارت / ترجمة : عبد السلام بنعبد العالي
ما سيأتي يتمخض عن الفكرة التي ترى بأن هناك رباطا أساسيا بين التعليم والكلام، هذا الإثبات شديد القدم (ألم يتولد التعليم عندنا عن الخطابة؟)، إلا أن بإمكاننا أن نفهمه اليوم خلافا لما كان عليه بالأمس، لأن هناك أولا أزمة (سياسية) للتعليم، ثم لأن التحليل النفسي (اللاكاني) قد أثبت ما يغرق فيه الكلام الفارغ من لف ودوران، وأخيرا لأن التعارض بين الكلام والكتابة أصبح يأخذ شكل بداهة علينا أن نستخلص النتائج المتولدة عنها شيئا فشيئا.
مقابل الأستاذ، الذي يتموقع جهة الكلام، لندع كاتبا كل مستعمل للغة يتموقع جهة الكتابة. بين هذا وذاك يوجد المثقف: أي ذلك الذي يطبع كلامه وينشره. لا تعارض بين لغة الأستاذ ولغة المثقف (بل إنهما قد يتواجدان غالبا عند الفرد نفسه)، أما الكاتب فهو وحيد، معزول: تبدأ الكتابة حيث يغدو الكلام عنيدا لا إمكان لتحمله.
لا يمكن للكلام أن يتراجع القهقرى. إلا أن بإمكاننا أن نكرر الكلمة ونلوكها. بيد أن كل خدش هنا إضافة وشحن وزيادة. فإن أنا أردت محو ما قلت لا يمكنني أن أقوم بذلك ما لم أظهر أداة المحو ذاتها (كأن أقول: “بالأحرى”، “لقد أسأت التعبير”)، المفارقة إذن أن الكلام، الذي هو عابر سريع الزوال، هو الذي لا يقبل المحو والزوال وليست الكتابة. أمام الكلام ليس بإمكاننا إلا أن نضيف كلاما آخر. وحركة تصحيح الكلام وتقويمه ليست إلا تشويشا وخلطا ونسيجا ما ينفك يتضاعف، وسلسلة من التصحيحات الإضافية سرعان ما تغدو الجانب اللاشعوري لخطاباتنا. (ليس من قبيل الصدفة أن يرتبط التحليل النفسي بالكلام وليس بالكتابة: فالحلم لا يتخذ شكلا مكتوبا).
ليس هذا كل ما في الأمر: فلا يكون بإمكان كلامنا أن يفهم (فهما حسنا أم سيئا) إلا إذا نحن راعينا عند تكلمنا سرعة معينة للتعبير. فنحن نكون مثل راكب دراجة أو مثل فيلم سينمائي محكوم عليه بالحركة والدوران إذا هو أراد أن يتجنب السقوط والتوقف. ولا يسمح لنا قط بالصمت أو التعثر في الكلام. تخضع كل نقطة من نقط الجملة لما يسبقها أو يتلوها مباشرة. إن السياق معطى بنيوي ليس للغة وإنما للكلام. والحال أن من سمة السياق اختزال المعنى. إن اللفظ عند الكلام يكون “واضحا”؛ واستبعاد كل اشتراك لفظي (وهو ما يسمى وضوحا) يخدم القانون والسلطة: كل كلام هو في خدمة القانون والسلطة.
على كل من يهم بالكلام (في الموقف التعليمي) أن يعي الظروف التي يمليها عليه استعمال الكلام، بفعل مجرد التحديد الطبيعي (الذي يرجع للأفعال الطبيعية للشهيق والزفير). تتم تلك الظروف على هذا النحو: فإما أن يتبنى المتكلم دور السلطة، وفي هاته الحال يكفي “إتقان الكلام” أي التكلم وفق ما يمليه القانون وما تفرضه السلطة التي ينطوي عليها أي كلام وذلك باتباع السرعة المناسبة والتزام الوضوح (وهذا ما يطلب من كلام الأستاذ والمعلم: الوضوح والسلطة) والجملة الواضحة حكمة وحكم Sententia أي كلام عقوبة؛ وإما ألا يرتاح المتكلم إلى القانون والسلطة الذين سيتمخض عنهما كلامه. لن يكون في إمكانه أن يعوض هاته الخسارة (التي تحكم عليه “بالوضوح”) لكن في إمكانه أن يعتذر عن الكلام (أي عن تمثيل القانون والسلطة). حينئذ يلجأ إلى خاصية الكلام التي أشرنا إليها سابقا عندما قلنا بأنه لا يتراجع القهقرى فيخرق عن طريقها قانون الكلام وسلطته ويأخذ في تصحيح نفسه والقيام بالإضافات والإطنابات والتشويشات ويقتحم الأبواب اللانهائية للغة ويضيف إلى الرسالة البسيطة التي يتوقعها الجميع من كلامه، رسالة جديدة تقضي على فكرة الرسالة ذاتها. وعن طريق انعكاسات الضياع والخسارة التي يغلف بها كلامه، يطلب منا أن نسلم معه بأن اللغة لا تؤول فحسب إلى مجرد التواصل عن طريق كل هاته العمليات التي تجعل الكلام المشوش أقرب إلى النص يتوخى المتكلم التخفيف من الدور الذي لا يعترف به والذي يجعل من كل متكلم أشبه ما يكون برجل الأمن. ومع ذلك فتكليلا لهذا المجهود “لخيانة الكلام”، هناك دور آخر يناط به: ذلك أن المستمع (الذي يتميز كل التميز عن القارئ) يأخذ كل هاته المساعي على أنها علامات ضعف فيرد عليها بعكس صورة سيد إنساني، إنساني إلى أقصى حد: إنسان ليبرالي.
لا محيد للأستاذ و المثقف عن هذا: فسواء أكان موظفا عاديا أو فنانا متحررا فلا انفلات له لا من مسرح الكلام ولا من القانون والسلطة اللذين يمثلان فيه: ذلك لأنهما لا يتولدان عن أقواله، وإنما في ثنايا كلامه. لخلخة هذا القانون وتلك السلطة (وليس تحويلهما فحسب)، عليه أن يحول خسارة الصوت، وسرعة الكلمات، والإيقاع حتى يبلغ بهما معقولية أخرى، أو عليه أن لا يتكلم قطعا، يعني ذلك أن عليه أن يقوم بأدوار مغايرة: إما دور العقل الصامت المثقل بالتجارب، أو دور المناضل الذي يتخلص من كل خطاب عقيم باسم البراكسيس. لا مفر: فاللغة هي دوما سلطة وقوة، والكلام معناه ممارسة إرادة قوة: في فضاء الكلام لا براءة ولا أمن ولا سلام.