ال (ق ق ج) و وهم الفهم
إنّ ما لفت انتباهي أخيرًا..هو أنني كّلما جئت بنصوص غربية من الـ (ق ق ج) من باب الاستئناس ليس إلا، و معرفة كيف كان روادها في أمريكا، و أمريكا اللاتينية و روسيا و حتى في بعض أقطار أوروبا.. يفكرون و ينتجون نصوصهم القصيرة جدا.. إلا و انبرى من يعجب لذلك، مستخفا بالأسلوب و البساطة اللغوية التي كُتبت بها تلك النّصوص.. و متسائلا عن افتقارها للغموض (Ambiguity) ، و كأنّ الغموض هو الأساس!
لا أدري من أين جاء وهم الفهم هذا؟! و كيف أصبح قاعدة كتابية لهذا الفن الجميل عند البعض ؟!حقا إنّ اللّغة المكثفة، و الرّمز ، و الإيجاز، و التّضمين ، و الحذف، و التّقديم و التأّخير.. يخلق ـ فنّيا ـ ظلال المعنى.. و حقا ـ شئنا أم أبينا ــ هذا الفن كان و مازال نخبويا.. و لكن ليس لدرجة التّعقيد و الإبهام. فلولا خشيتي من أن أغضب البعض لسردت نصوصا لا يفهمها أصحابها أنفسهم، فما بالك بالمتلقي! و إذا تجرّؤوا ، و أخذتهم العزّة بما كتبوا، و شرحوا ذلك.. فسيكون معنى شرحهم في واد، و ما كتبوا في واد آخر، فلا علاقة، ولاارتباط.
و قد حدث أن سألني صديق قاص منذ مدة عن رأيي في قصته التي نشرت في أحد الملاحق الثقافية. فقلت له:
ــ و الله قرأتها و لم أفهم شيئا.. ربّما التّقصير مني.
فانبرى يشرح لي جوهر الموضوع (the substance of the issue) فبعد أن كنت أسقطُ بعض تأويلاتي على النّص ـ و لو تعسّفا ـ عسى أن أفهم شيئا.. و جدتني بعد شرحه ألغي كلّ تأويلاتي، و ألزم الصّمت. فما وجدت في شرحه أية علاقة ممكنة بنصه. فلمّا لاحظ تعجبي رغم صمتي، قال و قد وجد مسوغا :
ــ ربّما خانني التّعبير..و ربّما يجد المتلقي ضالته في التّأويل..
إنّ الفنّ عموما عملية تواصل، و متعة، و فائدة.. و ليس تغريبًا أو اغترابًا بوعي المتلقي، و هذا من أساسيات الإبداع (Fundamentals principles) فمن السّهل جدًا رمي الكلام على عواهنه، أنْ نكتب هلوسة كهلوسة المجانين: فنأتي بجمل غير مترابطة، و بدون تعاقب ولا معنى، وعشوائية في تقنية الكتابة، و قد لا تحقق القدرة النّحوية التواصلية. حسب تشومسكي.. و نبادر بالنشر. بل هناك منافسة في حبّ الظّهور و النّشر. دون مراعاة لقيمة الإبداع و صحّته و مقوماته، و لا أخذ باحتساب القارئ الافتراضي.. و مدى استيعابه..
و كلامي هذا لا يعني المباشرة و التّقريرية لتمرير الخطاب. كما لا يعني الكتابة بنسق غرائبي، تناقضي، لا منطقي.. لذلك كانت كتابة ال (ق ق ج) صعبة، لا يستسهلها إلا من يعيش وهم الفهم ، و هو جاهل بخصائصها و مكوناتها.. و لكنّها ليست مستحيلة. لأنّها فقط، تفترض معادلة لا يملك حلّها الجميع : و هي الجمع بين النّسبة و التناسب في الأسلوب و اللّغة. في إطار حيز ضيق. وحجم لا يسمح بالفائض اللّغوي.. ( l’inguistic redundancy) فهذا التمثيل المزدوج،هو الذي يحقّق التّواصل، والتّجاوب ، و المتعة القرائية، و يضمن بقاء الخطوط السّردية القصصية، و القرائن/ المؤشرات التلميحية، و يسهّل فكّ شفرتها من أجل تأويلات ناجعة.
* مسلك *