تشكيلة المكان و الزّمان في مجموعة ” بنكهة شرعية “
للقاص صلاح بن طوعري
” بنكهة شرعية ” صدرت مجموعة قصصية من نوع القصة القصيرة جدا للقاص اليمني صلاح بن طوعري، و ذلك عن دار “خيال ” ببرج بوعرريج / الجزائر سنة 2019 فكانت لوحة الغلاف للفنانة التشكيلة تمام الأكحل و تكلف بتصميمه عز الدين الطيبي و تصدرت المجموعة مقدمة للأديبة فايزة لكحل. بينما كان الإهداء لأبوي القاص و شيخ سقطرى عيسى سالم بن ياقوت . مجموع النصوص142 وزعت على صفحات المجموعة بسعة نصين في كل صفحة إلا الصفحتين 79 و 80 حيث وضعت ثلاثة نصوص. و على ذكر النصوص نلاحظ أنها على نوعين قصة قصيرة جدا. و ما يسمونه بالومضة القصصية.
1 ــ عنوان المجموعة :” بنكهة شرعية” : شبه جملة من اسم مجرور بحرف جر(الباء) و نعت حقيقي. خبر لمبتدأ محذوف…تقديره ” استعمار بنكهة شرعية “
لغويا ، النكهة: نَكِهَ نَكَهاً: إذا أخْرَجَ نَفَسَهُ إِلَى أَنْفِ غَيْرِهِ. ونكه فلان : تغيَّرَت رائحة فمه من التُّخمَة و نكَّه العصير :أضاف إليه مادّة تكسبه رائحة جميلة. و النّكهة : مذاق، طعم ،أو رائحة الطّعام، و هذا الأقرب لمعنى العنوان. أما شرعية : اسم مؤنَّث منسوب إلى شَرْع. وهو مصدر صناعيّ من شَرْع: أي قائمًا على أساس شرعيّ يدعمه القانون، و تؤيده الأحكام.
2 ــ أمّا عناوين النّصوص المائة و الاثني وأربعين جاءت مفردة، إلا ثمانية منها جاءت مركّبة و هي :[ ضحكة تصدح، سماسرة الجو، شجرة دم الأخوين، أسير حرب، غطاء (مصرفي)، سلاح فتاك، ليلة الدخلة، معضلة التعليم ].و توظف العناوين المفردة قصد الإمعان في تكثيف لغة النّص، لأنّ دلالة المفرد ـ من حيث تكثيف المعنى و سعة التّأويل ـ ليست هي نفسها دلالة المركب التي غالباً ما تميل للحصر و التّوضيح.فقولنا (استعمار) فضاء رحب و بخاصّة و أنّه نكرة. و هو بذلك ليس كقولنا : “استعمار بنكهة شرعية” ، حيث تحدّدت سمة الحكم، و اتّسامه بطعم الشّرعية.
3 ـــ النّصوص قصيرة الحجم أغلبها بين سطرين وسته أسطر، و أكثرها ذات الأربعة أسطر. بينما هناك نصان بسبعة أسطر[ مخاتلة ، و سماسرة الجو] و ثلاثة نصوص بثمانية أسطر.[تعبير،و انتقام، و تيمّن] و نص واحد بتسعة أسطر [ معضلة التّعليم ] علماً أنّ السّطر قد تكون فيه جملة، و لربّما لفظة واحدة. هذا و كلّ العناوين جاءت اسمية حتّى المُركبة منها.
4 جملة البدْء : جاءت الجملة الفعلية مهيمنة على بداية كلّ نص .. بل أغلب تركيب النّصوص إنّما هو من جمل فعلية، لما تطلبته الأفكار من حركية و ديناميكية، لا تدعو للسّكون أو الاطمئنان. يلي ذلك و بشكل لافت شبه جملة: من الجار و المجرور و ظرفي الزّمان و المكان.
وقد بلغت ستا و أربعين شبه جملة كبداية للنّصوص. أمّا الجمل الاسمية فكانت في حدود العشرين جملة، عموماً، هذا ما ينبغي أن يكون، فجميل توظيف كلّ أنواع الجمل، إبعاداً عن الرتابة و الملل، و رغبة في اختلاف الإيقاع..
5 ــ المكان و الزّمان :
على عكس بعض الكتابات المتمرّدة على الخصوصيات، تبعاً للمسار الحداثي، يأبى القاص الشّاب صالح بن طوعري من اليمن إلاّ أن يتشبّث بالمكان و الزّمان في نصوصه القصصه، و” ومضاته ” و هذا يدل على وعي قصصي، لأنّ الحدث أيا كان ..لا يمكن أن يكون خارج المكان و الزّمان. فذلك يُعدّ من الأنساق المتحررة، التي تهدف خرق النّظم السّردية. ( الصلة بين الأحداث و المكان تلازمية، إذ لا نتصور نظرا إلى الأحداث بمعزل عن الأمكنة التي تدور فيها وانطلاقاً بتحديد العلاقة بين هذين العنصرين يمكن النظر إلى الشخصيات من حيث الدّلالة على تطوير الحكاية بين البداية و النّهاية و هكذا تتشابك الأجزاء لتعرض لنا وحدة النّص القصصي) ([1])
فنلاحظ في مجموعة ” بنكهة شرعية” للقاص صلاح بن طوعري هذا التشكيل المتنوع لتوظيف المكان و الزّمان ..
4/1 المكان ــ التّفضئ (Spatialisation):
أ ــ فقد يكون المكان جزءا من الجسم، كما هو في نص ” شتات ” ص/11 [ سرت رعدة باردة أسفل عمودي الفقري] أو [ تتلألأ الوجوه] في نص” فتوى”ص/12 أو [ أطبقوا شفتي بخيط سميك، كبلوا يدي و قدمي.. و بعد دهر من قطعهم رأسي ..] نص ” مخاتلة” ص/13 أو جذبوا أبي من لحيته، و لطخوا وجهه بوحل أسود.] نص ” تسييس” ص/14 أو [ أبحث عن درع أقي به ظهري من لسعات السوط.] نص ” استراحة” ص/15
ب ــ كما قد يكون المكان معلمة، أو مرفقا، أو مأوى.. كما هو في نفس النص السابق : [ .. باب المقبرة كان مغلقاً.] أو [ وضعوا الورود فوق قبري.] نص ” مخاتلة” ص/13 أو [ وحدها الأرواح طفقت تطرق باب المقبرة ] نص ” حساب” ص/14 أو [ وسط هيجان المحيط الصّاخب ] نص ” تسييس” ص/14 أو [ يصل الفأر إلى جحره آمنا] ص/16 أو [ شيد القصور و صبغ جدرانها بالأحمر ] ص/20 و منه [ ..أثناء زيارته لحديقة الحيوان ] نص ” مقلام ” ص/47 و [ ردموا الحفرة على الشّيخ..] نص ” ورع ” ص/52 و [ رأيت قبوا بنافذة مغلقة] نص ” عبادة ” ص/56…
ج ــ كما قد يأتي ذكر المكان بغير تحديد دقيق، كالذي نجده في نص ” فتوى” ص/12 [ يصدح المكان طرباً ] أو [ تسكن القاعة فجأة ] ومنه [ أقفز من ارتفاع ..] نص “خطر” ص/28 و منه : [ يتدلى قابيل باحثاً له عن مأوى] نص: ” انتصار ” ص/29 و [ بعد أن سأله القاضي عن مكان الثّروة و الموتى، أشار إلى أنّ جلّ القبور التي نبشها كانت للصوص ] نص ” غطاء ( مصرفي ) ” ص/61 و [ يطوف الفصولَ مُعلماً، يتسكّع الآخر في الصالات مُقامراً ، ابنُ المعلم يقفز من على السّور.. ] نص ” انعاش ” ص/64
د ــ المكان المجازي : و منه [يغطسُ في بحر ذاكرته الهائج ] نص” متاهة ” ص/43
هـ ــ إشارة للمكان، و منه : [ كلّ من في الدّاخل حمير ] نص “ضرر ” ص/45 و [ أضاع جسدي حق الدّفن ] نص “شطط ” ص/60 و [ هناك حيث السّلام ] نص ” بيع ” ص/69
و [ تحرّرت دولتك ] نص ” يمني ” ص/69 و [ إلى أين؟ ] نص ” إياب ” ص/63..
و ــ ذكرُ اسم المكان ، و منه [ سقطرى يمنية ؟] و [ يكمل مسيرته في مستشفى المجانين ] نص “يمني ” ص/69
ز ــ مكان غيبي : و منه [ الفردوس الأعلى ..] نص ” عته ” ص/54
4/ 2 الزمان ــ التّزمين ( Temporalisation) :
مسألة ذكر الزّمن، كمسألة ذكر المكان أصبحتا مغيبتان في بعض الكتابات القصصية القصيرة جداً، و الاكتفاء زمنيا، بما تلمح إليه صيغة الأفعال، التي هي في الغالب صيغة الماضي أمّا أسماء الزّمان المتنوعة سواء الفزيائية المحددة أو المبهمة أو الممددة:(الجمعة، الصباح، المساء، العام، اللحظة، الماضي، الحاضر، المستقبل ..)، أم ظاهراً في أزمنة تاريخية دالة (الاستعمار، الاستقلال، الحرب، الثورة ..)، أما بارزاً في أزمنة وجودية معبّرة (الولادة، الموت)، وأزمنة نفسية مثيرة (التّيه الترقّب، الانتظار، الامتحان، ..)، فإنّهُ يظلُّ، في عمقه الرّمزي الدال، «زمناً إنسانياً») ([2]) فهذه الأسماء الزمانية أصبحت نادرة الحضور في الأعمال القصصية القصيرة جداً الجديدة.لاعتماد ما يسمى “الومضة القصصية” و كتابة الشّذرة في جملتين ثلاثة.. طلبا للتّكثيف، و امعانا في الايجاز…
فحين تأتي مجموعة قصصية من نوع القصير جداً ” بنكهة شرعية ” لصلاح بن طوعري و تحتفي بالمكان و الزّمان في مختلف تشكلاتهما و تنوعاتهما ..لا شك أنها تكون لافتة.لنتأمل هذا التشكل الزّمني:
أ ــ الزمان في تحديد المدة : كالذي نجده في نص ” غصّة ” ص/ 11[ منذ عامين ..دهست طفلا بسيارتي.] و الزّمان هنا محدد بأربعة و عشرين شهراً. و منه [ عاد ليتم ليلة دخلته ]
نص ” صفعة ” ص/23 و كذلك الليلة محدودة زمنيا ومنه [ في الهزيع الأخير.. ] نص ” محال” ص/31 ، نقول : الهَزِيعُ من اللَّيل: نحو الثُّلث أَو الرُّبع الأَوَّل منه .
ب ــ الزّمان غير المنتظر/ أو الزّمان الغيبي كالذي نجده في نص حكم ص/16 [ وقفت أنتظر شروق الشّمس من مغربها.]
ج ــ الزّمان المستمر : كالذي نجده في نص ” بخت” ص/18 [ كلّ يوم أكتب فيه ..]
ــ الزّمان الاسترجاعي، و منه : [ حين داس ذات يوم على العَلم] نص ” شوكة ” ص/19 و [ أتبحث عنها بعد أن تركتك منذ زمن بعيد؟ ! ] نص ” تيمّن ” ص/72 و [إلا أنّ أمّه سبقتها بأعوام إلى المقبرة . ] نص ” مناحة ” ص /73.
ــ الزّمان التّأويلي ، زمان لا يمكن إدراكه إلا تأويلا، حسب السّياق كالذي نجده في نص ” عقر ” ص/20 [ استيقظت على أشلاء جثث.] و منه [ آثر النزول مبكراً ] نص “مناص” ص/21 و منه [ في تلك الليلة..] نص ” ظفر ” ص/42 و [ استيقظت على صوت جمعهم الغفير ] نص ” ” ص/ 61
ــ الزّمان الطويل : [ البرهة من الوقت..] استراحة” ص/15 و منه أيضا و [ برهة صمت..] نص”استدراج” ص/40 و القاص وظفها على أنّها وقت قصير تبعاً لما هو شائع [ و دعاني للجلوس لبرهة من الوقت ] بيد أنّها العكس ،البرهة الحينُ الطويل من الدّهر، وقيل: الزمانُ. و البرهة أيضاً: مرحلة من الزّمان الجيولوجيّ يقاس مداها بمئات الآلاف من السِّنين، ويندر أن يبلغ مداها أكثرَ من مليون سنة.
ــ الزمان كحدّ أقصى : و منه [ بعد اليوم لن يعلو سوطك ..] نص “تسليم ” ص/57 و [ إن شاء الله في عيد الفطر ] نص ” صدق ” ص/ 70
ــ الزّمان المشار إليه : [ تحت جنح الظلام..] نص ” ضعف ” ص/39 و منه [ تسيح الظلمة مآسيها..] نص “ذات” ص/27، و المراد وقت الليل .و منه [ صرخ في وجه تأخرها المتكرر ] نص “سلاح فتاك ” ص/62 التأخر مسألة وقت .و [تأنقت الزوجة الأولى لاقتراب ميعادها، و تأففت الثانية لبعد دورها ] نص ” ليلة الدخلة ” ص/66 فكلمتا ” ميعاد و دور” كلاهما مرتبطة بالزمان. و [أفهمت الآن لمَ رمضان احتضن (ماي) و ( يونيو) في حين كان يصاحب ( سبتمبر) من كلّ عام ] نص ” معضلة التّعليم ” ص/ 77 و هنا نجد كلاما زمنيا بامتياز : رمضان: شهر الصوم، ماي :الشهر الخامس من السنة، يونيو : الشهر السادس من السنة، سبتمبر: الشهر التاسع من السنة. و العام اثنى عشرة شهرا.
و هكذا نلاحظ أن : (بناء الزمن في القصة القصيرة ليس مجرد إجراء تنظيمي وتركيبي، بل يعدُّ فعلاً إبداعياً وبناءً جمالياً. إن هذا يمنح هذا الزّمن القصصي طابعاً مميزاً ونوعياً، لأنَّهُ يَغدُو عُنصراً بنائياً للنَّص القَصصي، فيصير ممثلاً، في ذاته، غايةً دلاليةً وجماليةً، وليست مجردَ وسيلة للتعبير والإسهامِ في عملية البناء السّردي والفنّي والجمالي للقصة؛ ) ([3])
على عكس الذين يقفزون على ذكر المكان و الزمان في نصوصهم القصصية القصيرة جداً لقد تبيّن لنا أعلاه أنّ الاحتفاء بالتّشكيلات المكانية و الزّمانية ليست شيئا عارضا يمكن الاستغناء عنه لسبب أو آخر.. بل هو ضرورة فنّية، و جمالية تزكي البناء القصصي، و تدعم فضاء الخطاب، كما تعمّق الاحساس بزمانه : (Temps de discours) .
من خلال هذا التّشكيل المكاني و الزّماني تبين أنّ القاص صلاح بن طوعري على بيّنة من المكان الواقعي و السردي ، أي ما هو جامد و ما هو جمالي، كما تبين أن القاص من حيث توظيف الزّمان أنّه على بينة فنّية من الاختزال الزّماني و التّداعي، والتّجاوز، ومهارة الاسترجاع (Flash back ) و ذلك باعتبار أنّ الزمان الفزيائي مخالف لزمان السّرد. فالأول زمان الحكاية التّراتبي الجامد، أمّا زمان السّرد فأكثر ديناميكية و تنوعاً…
[1] ــ عبد الوهاب زعفران : المكان في رسالة الغفران ص/20
[2] ــ جمالية بناء الزمن في القصة القصيرة .عبد الرحمن التمارة نشر في جريدة الاتحاد الاشتراكي يوم 23 – 08 – 2019
[3] ــ نفس الدراسة السابقة.
تناول في منتهى الجمال لمجمعة نصوص رائعة.. شكرا أيها العلم د مسلك ميمون شكرا للفنان صلاح
شكرا لمرورك أيها العزيز، حفظك الله، و حفظ شعبنا في يمننا العزيز.. تحياتي
قراءة مرجعية غنية كدأب ناقدنا المقتدر أستاذ مسلك.. بوركتم و بورك القاص المبدع.
شكرا لمرورك و حسن اهتمامك.. و دمت للوفاء ، تحياتي